بعد الغارة الإسرائيلية على موكب عسكري لـ«حزب الله» في القنيطرة أظهرَت ردود الفعل التي صدرَت عن الاعتدال السُنّي أنّ العقدة الإسرائيلية التي كان الاعتقاد أنّه تجاوزَها، ما زالت تتحكّم بخلفيته وممارسته، الأمرُ الذي يهدّد كلّ المسار الذي انطلقَ في 14 آذار 2005 تحت عنوان «لبنان أوّلاً».
شكّلت انتفاضة الاستقلال التي يحتفل الرأي العام الاستقلالي بانطلاقتها العاشرة بعد أسابيع محطّةً مفصلية في التاريخ اللبناني، وذلك ليس بسبب الدينامية التي شكّلتها وأدّت إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، بل نتيجة تجديدها الأملَ بأنّ فكرة العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في ظلّ دولة طبيعية سيّدة ومستقلة تكون الأولوية فيها للبنان قابلةٌ للحياة.
قبلَ هذه المحطة التي أحيَت الأملَ مجدّداً بلبنان الرسالة كان الانطباع لدى شرائح مسيحية واسعة، وأنا منهم بطبيعة الحال، أنّ نجاح الشراكة المسيحية-الإسلامية التي تشكّل نموذجاً فريداً في هذا العالم مسألة مستحيلة، وأنّ فكرة العيش المشترك التي هي مسيحية بالأساس وتستحقّ النضال من أجلها وصلت بعد عقود وعقود، ويا للأسف، إلى الحائط المسدود، وأصبح الاستمرار في هذا النضال يشكّل خطراً على الوجود المسيحي نفسِه، الذي لم يعُد يحتمل هذا النزفَ المتواصل في الجسم اللبناني، خصوصاً أنّه الحلقة الأضعف بين السُنّة والشيعة، فضلاً عن أنّه نضال من دون أفق، ليس فقط بفعل وجود الجيش السوري حينذاك، بل لأنّ النظرة حيال لبنان ودوره لم تكن، بين المسيحيين والمسلمين، موحّدة.
ولكنّ انتفاضة الاستقلال بدّدَت هذا الانطباع وشكّلت فرصةً حقيقية لإعادة ترميم الثقة بإمكانية إنجاح المشروع اللبناني، خصوصاً أنّها كانت المرّة الأولى منذ تأسيس الكيان اللبناني في عشرينات القرن الماضي التي تتوحّد فيها الإرادتان الشعبيتان المسيحية والإسلامية، إذ على رغم نجاحهما في بناء ميثاق العام 1943 وتجاوز أزمة العام 1958 والتوصّل إلى اتفاق الطائف، غير أنّ النظرة حيال الأمور الأساسية المتصلة بدور لبنان والصراع العربي-الإسرائيلي ظلّت متباعدة، الأمرُ الذي أبقى الشكوك بإمكانية الوصول إلى دولة حقيقية من بديهياتها أن يكون الشعب اللبناني موحّداً حيال القضايا المصيرية، لا منقسماً، ومشدوداً إلى دولته، لا دويلاته.
وقد دلّت تجربة 14 آذار إلى أنّ ما كان الاعتقاد بأنّه مستحيل تحوّل إلى واقع، وأصبحَت ردّة الفعل المسيحية والسنّية والدرزية وأقلّية شيعية حيال القضايا الوطنية واحدة، إذ على رغم الانقسام الوطني لا السياسي بين 8 و 14 آذار، غير أنّ إيجابيته الوحيدة أنّه عابرٌ للطوائف، وعلى رغم الانقسام السنّي-الشيعي غير أنّ إيجابيته الوحيدة أنّه كان من طبيعة وطنية لا مذهبية، أي بين الأكثرية السنّية التي تحوّلَت إلى رأس حربة في الدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله وحصرية السلاح بيَد جيشه وتحييده عن المحاور الإقليمية، وبين الأكثرية الشيعية التي ورثَت الدورَ السنّي التاريخي الذي تخَلّت عنه الأخيرة جزئياً بعد العام 1990 وكلّياً بعد انتفاضة الاستقلال، مع فارق أنّه ما كان ممكناً مع السُنّة في الجمهورية الأولى لناحية الوصول إلى تسويات عنوانها الدولة، أصبحَ مستحيلاً مع الشيعة الذين أمسكَ «حزب الله» بقرارهم تمهيداً للإمساك بالقرار اللبناني وتغيير دوره وهويته.
وفي الوقت الذي يبدو فيه مستحيلاً الوصول إلى تسوية مع «حزب الله» الذي في غير وارد تسليم سلاحِه والتسليم بمرجعية الدولة وحصريتها، وفي الوقت الذي يبدو فيه أنّ التسوية الإقليمية التي يمكن أن تعيدَ الحزب بواسطة طهران إلى حضن الدولة بعيدةٌ جداً، وفي الوقت الذي اتّخذَ فيه النائب وليد جنبلاط بعد استخدام الحزب لسلاحِه في الداخل في أيار 2008 خيارَ الدروز أوّلاً، وبالتالي وفي ظلّ هذا المشهد فإنّ أيّ إشارة من الاعتدال السنّي يمكن أن يُشتَمّ منها تراجعٌ عن ثوابت انتفاضة الاستقلال، ستدفع المسيحيين مرغمين إلى التفكير مسيحياً.
فالمسألة باتت دقيقة جداً، وقد ضاقت كلّ المكوّنات اللبنانية ذرعاً من الوضع الحالي، ولا سيّما المسيحية منها، في ظلّ مشهد انهيار ما تبقّى من حضور مسيحي مشرقي، وتراجُع في الحضور السياسي اللبناني معطوفاً على وضع مفتوح من غياب الحلول التي تعيد الاستقرار، الأمر الذي يساهم في في استمرار النزف والضعف.
ومن هنا مسؤولية «المستقبل» كبيرة في عدم إعطاء أيّ إشارة عن تراجع في الأهداف الأساسية، لأنّه بعدها لا يجوز تحميل المسيحيين مسؤولية الذهاب نحو خيارات مسيحية، ومن ضمن الأهداف الأساسية الموضوع الإسرائيلي الذي ليس تفصيلاً على الإطلاق، بل يُعتبَر من أبرز القضايا الخلافية.
وفي هذا السياق يجب التذكير بأنّ الخلاف حول العنوان الإسرائيلي قاد إلى انهيار الدولة في لبنان الذي تحوّل إلى ساحة مستباحة لكلّ القوى الإقليمية والدولية منذ التوقيع على اتّفاق القاهرة إلى اليوم، وبالتالي لا يجوز تحت أيّ ذريعة التعامل بخِفّة مع هذه القضية التي يجب أن تكون محسومة على قاعدة ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى، رفضُ أيّ سلام مع إسرائيل قبل الوصول إلى تسوية تاريخية بين منظمة التحرير والدولة الإسرائيلية على قاعدة الدولتين المستقلتين، وانطلاقاً من المبادرة العربية للسلام. ولكن في نفس الوقت رفض التدخّل في الشؤون الفلسطينية الداخلية.
الركيزة الثانية، رفضُ أيّ مقاومة من لبنان باتّجاه إسرائيل، والتمسّك بمبدأ أنّ الدولة وحدها تدافع عن الحدود اللبنانية واللبنانيين. فمنطق المقاومات وُلد في الحرب الأهلية، واستمرارُه يعني استمراراً لهذه الحرب.
فالاستثناء الذي استمرّ بعد العام 1990 بفعل الاحتلال السوري لا يجوز أن يستمرّ تحت أيّ عنوان، وإذا كان مستحيلاً وضعُ حدّ له، فلا يجوز بالمقابل التسليم به وتشريعه، والكلام عن أيّ وحدة داخلية في مواجهة العدوان لا يستقيم إلّا تحت مظلّة الدولة.
وإذا كان «المستقبل» يرى مِن فوائد لحواره مع «حزب الله»، فهذا شأنُه، ولكنّ الحوار لا يعني إطلاقاً التراجعَ عن ثوابت وطنية. فـ»لبنان أوّلاً» يعني رفضَ أيّ عمل «مقاوم» من لبنان، ورفض أيّ سلاح خارج الدولة، ورفضَ أيّ تمحوُر للبنان والإصرار على تحييده، ورفضَ أيّ تسوية إقليمية تُبقِي السلاح «المقاوم» تحت أيّ عنوان.
ومن هنا الحفاظ على جوهر 14 آذار المتّصل بالشراكة المسيحية-الإسلامية، وإنجاحُ الفكرة اللبنانية أصبح اليوم في ملعب الاعتدال السُنّي، لأنّ إعطاءَ أيّ انطباع عن تراجع وتدوير الزوايا في القضايا الأساسية سيدفع المسيحيين نحو خيارات أخرى تجَنّباً لأيّ «صفقة» على حسابهم. وهذا حقّهم.