الجيد في الرسالة التي وجهتها فئات عدة متفاوتة الحجم في الساحة السنية اللبنانية كرد فعل على الإحياء الرسمي لمجازر الأرمن والسريان، أنها واضحة وصريحة. والصراحة والوضوح، مهمان جداً في مرحلة التفكك وهواجس مكونات المنطقة حول مصيرها.
لكن البشع فيها، كبير وكثير.
الرسالة الموقعة ب رفض “الجمعيات البيروتية” ومؤرخين سنّة ووسائل إعلام والدعوات في طرابلس لرفع العلم التركي، تقول ببساطة إننا لا نريد عيشاً واحداً ولا مواطنة، ولا نريد الإعتراف بالآخر المختلف، كما هو.
ذلك أنها أعلنت أننا لسنا لبنانيين مواطنين متنوعين في بلد واحد، لأن السلجوقي والعثماني والتركي هو أقرب إلينا من مواطنينا في هذه البقعة الجغرافية ومن نتفاعل معه اجتماعياً، وحتى المجازر التي تعرضت لها جماعات بأكملها لها ولو فاقت المليون ونصف، هي معرض تساؤل وتشكيك. قالت الرسالة بوضوح إننا نحنّ إلى زمن الخلافة العثمانية السُنية الإسلامية التي ارتضينا حكمها، وأنَّ الرابطة المذهبية ما زالت تعلو على الرابطة الوطنية والقومية والإجتماعية. نحن نعيش كجماعات متجاورة بالجغرافيا فحسب، لكن ثقافتنا ووجداننا في مكان بعيد جداً. بمعنىً آخر، نحن أقرب إلى مقولات أبو الأعلى المودودي في الهند الذي أسس لمقولات رفض الرابطة الوطنية والقومية وفكرة الديموقراطية، لحساب الرابطة الدينية فحسب.
الأخطر، أن رسالة بعض شركائنا في المواطنية ترفض التضامن الرسمي كدولة، مع ضحايا مجازر بشعة، في زمن المجازر وقطعِ الرؤوس والنحر والصلب، زمن “داعش” و”النصرة” وأخواتهما من اشتقاقات التطرف والجاهلية. فالتشكيك في المجازر الأرمنية، مهما كانت الحجج القومية للسلوك التركي، هو مرادف للتشكيك بما تفعله “داعش” اليوم من استغلال حرفي وانتقائي لأحكام الدين، وتشكيك بقتل كل مختلف عن خطابها، أكان سنياً من الأنبار أم أشورياً أم إيزيدياً أم علوياً أو موحداً درزياً أو موالياً لأهل البيت… هو رفض للإعتراف بأن الأولوية اليوم هي لخطاب عقلاني فكري إسلامي جريء أساسه إصلاح الدين مما يفترض أنه براء منه، أولويته “براءة نانت” إسلامية تضع حداً لهذه الفوضى الفكرية والدينية والأخلاقية.
كانت الصورة الجميلة المفترضة، أن تكون الذكرى فرصة لأن تقول الفئات المسلمة أنها وانطلاقاً من تراث الرحمة والعقلنة في الإسلام، ومن موجبات الإنتماء إلى وطنٍ واحد، إنها متضامنة مع ضحايا المجازر، وإنها مناسبة للتأسيس لمستقبل مختلف، على قاعدة الإعتراف بالآخر المختلف، بتعدديته وبخصائصه، واحترام التنوع وتكريسه سياسياً ودستورياً، وأن أخي في المواطنة هو شريكي قبل أي فرد أو مجتمعٍ آخر.
المُقلِق أيضاً في المسألة، هو كسر غطاء الإنتماء العربي للوجدان السُني للإحتماء بأي انتماء إسلامي آخر… تجاوز رد الفعل أن إبادة الأرمن تلاقت مع واقع أن الثورة على التتريك أتت من الحجاز العربي وبقيادة سليل النبي القُرشي، وتجاهلَ أن الرابطة الدينية تبقى دوماً في خدمة القومية والمشاريع الأمبراطورية، كما رسمها جمال باشا بدماء عمر حمد وعبد الغني العريسي …
على بشاعتها، شكراً لكم يا أصحاب الرسالة على الشفافية والصراحة في زمن الزلازل الكبرى، والخيارات المصيرية.
* صحافي وباحث لبناني