«النكبة التكفيرية أخطرُ من النكبة الفلسطينية. الفرصة لا تزال متاحة لأن تتحمّل الدولة المسؤولية في جرود عرسال، وإلّا فالشعب سيتحمّلها ولن تمنعَه خطوط حمر من تحقيق هذا الهدف. مأزَق السلطة في لبنان وصَل إلى حدّ حسّاس وخطير جدّاً. الحراك المتواصل في البحرين هو الذي سيؤدّي إلى نتيجة. العدوّ الإسرائيلي لم يقصف أضرحةً ولا مقامات، فيما السعودي فعلَ في اليمن».
هذه أبرز الرسائل التي وجّهها السيّد حسن نصرالله في إطلالته الأخيرة مساء أوّل من أمس، والتي اتّصفَت بالسَلاسة والهدوء والليونة شكلاً، والمواقف التصعيدية والحادة والتحذيرية مضموناً.
فمنذ «عاصفة الحزم» حافظَ السيّد نصرالله على نفس اللهجة العدائية حيال المملكة العربية السعودية التي يتعامل معها كعدوّ أخطر من العدوّ الإسرائيلي، ولكنّ هذه العداوة المستجدّة التي سببها رفض السعودية التسليمَ بالهيمنة الإيرانية بدءاً من اليمن غريبٌ أمرُها، لأنّه من دون مقدّمات تحوّلت من دولة صديقة إلى دولة عدوّة، وبالتالي هل لو سلّمت بمفاعيل الانقلاب الإيراني في اليمن كانت ما تزال في مصاف الدوَل الصديقة؟
ولكن السؤال الأهم: ما الحكمة من وضعِ الشيعة في مواجهة السنّة؟ ولماذا الإصرار على التعبئة مذهبياً؟ وهل من اعتقاد إيراني أو رهان بالقدرة على الفصل بين السنّة والسعوديين؟ وهل هذا ما يفسّر مناشدتَه الأمّة مراراً وتكراراً في خطابه من أجل أن تعيَ هذه الأمّة خطورةَ المدّ والبُعد التكفيريَين؟ وهل يَعتقد فعلاً أنّ أيّ مسلِم سنّي سيتعاطف مع طروحاته ويتحالف معه ضدّ السعودية؟
ومِن هنا، على مستوى ملفّات المنطقة لا تَغيير، بل إصرار على مواصلة المواجهة في اليمن، ورفع مستوى المواجهة في البحرين، في رسالة إلى السعودية أنّ التدخّل لن يقتصر على اليمن، وأنّه غير عابئ بعاصفة حزم بحرينية، وأنّ الصراع مع السعودية التي يتّهمها بتغطية التكفيريين، عِلماً أنّها أكثرُ المتضرّرين من التكفير وأبرزُ مَن يتصدّى له، تحوّلَ إلى صراع وجود، على غرار الصراع مع إسرائيل، خصوصاً أنّه لا يختلف اثنان بأنّ المسؤول الأوّل والأخير عن انفلاش التيارات التكفيرية وتضخّمِها وتمدّدِها هو المحور الإيراني بعد الحرب السورية وذهابُه بشكلٍ فاضح ومكشوف نحو إقامة هلال شيعي وإمبراطورية فارسية. وأمّا على المستوى المحلّي، فيجدر التوقّف أمام عنوانَين: عسكري وسياسي.
فعلى المستوى العسكري وضعَ السيّد نصرالله الدولة ومَن خلفَها أمام خيارين: إمّا أن تتحمّل مسؤوليتها وتتولّى المواجهة في عرسال وجرودها، وإمّا سيتكفّل «حزب الله» والجيش السوري بالمهمة، وهو أعلنَ عملياً أنّ قرار إخراج المعارضة السورية من الحدود اللبنانية-السورية قد اتّخِذ، وأنّ المعركة التي بدأت في القلمون لن تتوقّف قبل أن تحقّقَ أهدافَها، وأنّ أمام الدولة فرصة إثبات وجودها، فإمّا تلتقطها وتكون شريكةً له في المعركة، أو تفوّتُها على نفسِها.
والمعركة بالنسبة للسيّد نصرالله مزدوجة: في عرسال التي وصفَها بأنّها تشَكّل الخزّان التمويلي والتسليحي والمعبَر والممرّ للمعارضة السورية في كلّ القلمون وتشَكّل البيئة الحاضنة لها، وفي جرود عرسال التي انتقلت إليها كلّ تشكيلات المعارضة السورية بعد انطلاق معركة القلمون، وبالتالي لا يتحدّث عن معركة جرود فقط، بل عن معركة داخل عرسال.
وهذه المعركة لن تكون سهلةً لسببَين: لأنّ المجموعات المقاتلة لا خيارَ أمامها سوى الموت، ولأنّه يستحيل الفصل بين هذه المجموعات والبيئة السنّية في عرسال وفي لبنان عموماً، وبالتالي الاشتباك في عرسال وجرودها هو غير الاشتباك في القلمون، ولذلك أيّ مواجهة من هذا النوع تعني عودة التعبئة والتشنّج إلى الساحة السنّية-اللبنانية، ما يشكّل تهديداً لشبكات الأمان المتمثلة بالحكومة والحوار، خصوصاً أنّ الوضعَ اليوم، وقبل المواجهة المحتملة في عرسال، هو على «صوص ونقطة»، فكيف بالحَريّ بعد اندلاع هذه المواجهة؟
وما يجب تسجيله أنّ المجموعات الإرهابية لم تدخل لبنان إلّا بعد دخول الحزب سوريا، وأنّ هذه المجموعات تمركزَت في الجرود منذ معركة عرسال الى اليوم، حيث باستثناء المعركة الأولى الأمورُ كانت تحت السيطرة، وأنّ الجيش اللبناني معنيّ بحماية الحدود اللبنانية فقط دون القيام بأيّ عمليات خارج هذه الحدود ولو تحت أيّ عنوان، وأنّ الحزب قرّر السيطرة التامّة على الحدود اللبنانية-السورية ليس لأسباب لبنانية، بل لأسباب إقليمية ترتبط بخشيته من وجود مخطط إقليمي لتحصين وتمكين هذه المجموعات من إقفال آخر حدود أمام النظام السوري ومحور الممانعة، ما يؤدّي تلقائياً إلى سقوط العاصمة دمشق وتبدّل المشهد السوري رأساً على عقِب، وبالتالي تلافياً لهذه اللحظة قرّر إنهاءَ أيّ وجود معارض سوريّ على الحدود وبأيّ كلفة.
وعلى المستوى السياسي، كان لافتاً قولُ السيّد نصرالله إنّ كلّ الحوارات في الموضوع الرئاسي لم تحقّق شيئاً، من حوار «المستقبل»-عون إلى حوار «القوات»-«التيار الحر» و«حزب الله»-«المستقبل»، وبالتالي حانَ الوقت، بالنسبة لنصرالله، للخروج من المعالجات الكلاسيكية التي لم تنجَح بتحقيق الخرقِ المطلوب إلى أفكار جديدة.
ولكنّ مشكلة هذه الأفكار أنّها تتطلّب تعديلاً دستورياً، ما يعني خروجاً عن اتّفاق الطائف، وهذا الخروج يتمّ، ليس بسبب سوء تفسير النصوص الدستورية أو لكونها غامضةً وتحتمل التأويل، بل بسبب رفض تطبيق هذه النصوص، الأمرُ غيرُ الجائز إطلاقاً، لأنّه على القوى السياسية أن تتكيّف مع ما يقوله الدستور لا العكس عبر الذهاب إلى تعديلات في كلّ مرّة تصطدم رغبة البعض بالنصوص الدستورية، فيما الأزمة القائمة تتطلّب المصارحة تمهيداً لأن يُراجعَ العماد عون خياراته ومواقفَه وتموضعَه.
فالسيّد نصرالله وضعَ، بهذا المعنى، اللبنانيين أمام خيارَين: إمّا السير بأحد الخيارات التي طرحَها العماد عون عبر تعديل جزئي للدستور، أو الذهاب إلى أزمة نظام تَفتح البابَ أمام إعادة صياغة دستور جديد للبنان.