لا يمكن وَضع حادثة رومية خارج سياق الأحداث المتتالية منذ «عاصفة الحزم» إلى اليوم والاستهداف المُبرمج للاعتدال السنّي من أجل تعطيل فعالية «المستقبل» السياسية والوطنية.
بمَعزل عن هويّة الجهة المُسرّبة لشريط تعذيب السجناء في روميه وما ستكشفه التحقيقات على هذا المستوى، فإنّ الأخطر من التسريب هو الاستخدام السياسي للفيديو المُسرّب، واستطراداً لملف الإسلاميين الموقوفين من خلال وضعهم في مواجهة «المستقبل» في محاولة لخَلق شرخ داخل البيئة السنية التي دَلّت الأحداث منذ تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى اليوم أنّ عدم صيانة هذه البيئة بشكل مستمر يدفعها إلى التطرّف، وأنّ البيئة السنية اللبنانية غير مختلفة عن البيئات السنية الأخرى، وأنّ الأزمة السورية قلبت مزاجها رأساً على عقب.
وهذا ما لاحَظه «حزب الله» جيداً بلَمسه الفرق الشاسع بين العَصَب السنّي قبل 7 أيار 2008 والعَصب نفسه بعد الأزمة السورية، الأمر الذي دفعه إلى إعادة النظر بسياسته الآيلة إلى وضع اليد على السلطة التنفيذية ودخوله في تسوية مع تيار «المستقبل» على قاعدة شراكة أمنية-سياسية يتولّى فيها التيّار المواقع الأساسية في الحكومة التي تخوّله التصدّي للتطرّف من موقع الاعتدال، فيكون بذلك حمَى البلد ونفسه، وأتاحَ للحزب مواصلة مهمته القتالية في سوريا، والتي من شروطها تَرييح بيئته في لبنان.
وتذكيراً، أتاحَت هذه الشراكة لـ»المستقبل» التخلّص من المتطرفين داخل الطائفة وتهميش القوى السنية التي تدور في فلك «حزب الله»، وهذا طبعاً بغَضّ نَظر واضِح من قبله، لأنّ أولويته ضبط الساحة في لبنان بغية التفرّغ للساحات خارج لبنان.
ولكن من الواضح أنّ تعديلاً طرأ على هذا المشهد، ولم يعرف بعد ما إذا كان هذا التعديل جوهرياً أم شكلياً مقصوداً أم بريئاً، وهو أنه منذ إعلان المملكة العربية السعودية «عاصفة الحزم» التي أدخلَت المنطقة في توازن استراتيجي جديد، راح «حزب الله» يُخَلخل القواعد التي قامت عليها الحكومة من خلال شَنّه هجوماً غير مسبوق على الرياض أدّى بالمحصّلة إلى إعادة استنفار العصبيات والغرائز وطرح الأسئلة القديمة-الجديدة داخل «المستقبل» عن المغزى من استمرار الحوار مع الحزب في ظل الخطاب التخويني والتصعيدي، خصوصاً أنّ الهدف من الحوار كان تنفيس الاحتقان. وبالتالي، كيف يمكن استمراره طالما أنّ أحد أطرافه يتولى مهمة التعبئة والتجييش؟
وقد استُتبع المشهد التصعيدي من الباب اليَمَني بمحاولة إطلاق الوزير ميشال سماحة في تَحدّ مباشر للشارع السنّي الذي رأى في هذه الخطوة استهدافاً لشهادة اللواء وسام الحسن، وتغطية للإرهاب ضد السنّة، وتسهيلاً لضَربهم واستهدافهم، وتمييزاً في المعاملة بين اللبنانيين على قاعدة تشريع نشاط حلفاء محور الممانعة، وشَيطَنة كل نشاط يَتولّاه المحور المضاد، الأمر الذي رفعَ من منسوب التوتر والاحتقان داخل هذا الشارع.
وما كادت الأمور تستوي حتى جاءت قضية عرسال والتلويح باقتحامها من قبل الأهالي في حال لم يُصَر إلى ملاقاة «حزب الله» في مواجهته مع «النصرة» و«داعش» وسيطرته على كامل الحدود بين لبنان سوريا، وذلك في تهديد مباشر بصدام شيعي-سنّي سرعان ما تمّ التراجع عنه بعد تَمسّك «المستقبل» بموقفه الصارم الرافض توفير الغطاء للحزب في هذه المنطقة، وإصراره على تَحمّل الجيش وحده المسؤولية في هذا الملف الذي فعل فِعله أيضاً بتغليب مشاعر التطرف على الاعتدال.
وبعد كل ما تقدّم، خَرج إلى الضوء الفيديو المُسرّب عن تعذيب الإسلاميين في رومية، هذا الفيلم الذي، بمعزل عمّا إذا كان تسريبه مقصوداً أم عفوياً، أدّى إلى تأجيج المشاعر بشكل واسع وكبير، الأمر الذي رَجّح فرضية وجود سياسة هادفة إلى إرباك الساحة السنية في سياق رسائل موجهة من «حزب الله» للرئيس سعد الحريري، أبرزها الآتي: أولاً، تظهير غَلبة التطرّف في الشارع السني على الاعتدال، والإيحاء أنّ هذا الوضع سيتدحرج نحو انفجار سنّي-سنّي يؤدي إلى ترجيح كفّة الفريق الأول.
ثانياً، القول للحريري إنّ جولاته على عواصم العالم غير قابلة للصرف، لأنّ حِراكه لا يستند إلى بيئة صلبة.
ثالثاً، تخييره بين التحالف مع التطرف السنّي، ما يعني نهاية الاعتدال، وبين مواصلة التحالف معه، إنما على قواعد جديدة لمصلحة الحزب، ما يعني غَلبة التطرّف أيضاً.
ومن الواضح أنّ «حزب الله» يلعب على حافّة الهاوية، فهو لا يريد استبدال التطرّف بالاعتدال، إنما إضعاف الاعتدال في مواجهته مع التطرّف، في محاولة لجَرّه إلى مزيد من التنازلات.