تطورات المنطقة جعلت «الحزب» يكتفي بدور المراقب في مجلس الوزراء والإمساك بقرار الأمن والسياسة الخارجية
رسائل «عرض القصير» للبيئة الحاضنة ولإدماجه بالاستراتيجية الأميركية ضد «داعش»
خبراء يعتقدون أن «حزب الله» يعيش وهماً إذا تصوّر أن حرب سوريا جعلته قادراً على خوض حرب هجومية ضد إسرائيل!
يَنصب الهمّ السياسي، سواء للعهد الجديد والرئيس المكلف أو الفرقاء السياسيين، على التشكيلة الوزارية وحسابات الأحجام والأوزان وثقل الحقائب بين سيادية وغير سيادية وخدماتية درجة أولى أو درجة عاشرة. الكل مشغول بحفلة التقاسم ما عدا «حزب الله» الذي يرى أنه أكبر حجماً من لبنان في المعادلة الإقليمية وربما الدولية، ويكفيه تالياً أن يكون ممثلاً في الحكومة بغض النظر عن الأحجام. فتأثيره في القرارات ليس مرتبطاً بوجوده داخل أو خارج السلطة التنفيذية، فهو مضمون في كلا الحالتين. وبمقدور المشاركة الرمزية، والتي قد لا تتعدى وزير من دون حقيبة, أن توصل الرسائل التي يريدها للداخل والخارج. فعدا عن حراجة موقفه تجاه جمهوره إذا لم يُشارك في الحكومة، فإنه يحتاج إلى أن يكون «العين الساهرة» عن كثب لما يجري داخل أروقة مجلس الوزراء، وأن لا يكتفي بالأعين المراقبة بالوكالة، تماماً كما قد يحتاج إلى إيصال رسائل بالمباشر لا بالواسطة. وتلك المشاركة الرمزية كفيلة في إيصال الرسائل للخارج بأن الحزب المصنف إرهابياً على لوائح الأكثر قوة في العالم, أو على لوائح بعض الدول العربية, موجود في الحكومة الشرعية التي يتعاملون معها، ولا أحدَ قادر على وضع «فيتو» على الاعتراف بشرعيته اللبنانية المستمدة من كونه جزءاً فاعلاً ضمن النسيج الاجتماعي لطائفته، أحد المكوّنات للنسيج الاجتماعي اللبناني. فتقاسم «كعكة السلطة» هنا لا يثير اهتمامه، وهو يُجيّره للاهثين وراءه من الشركاء والحلفاء والخصوم في آن.
ما يعنيه من غطاء الشرعية اللبنانية له أضحى واقعاً محققاً منذ زمن، والقرار في الملفات الكبرى المرتبطة بالأمن والسياسة الخارجية وموقع لبنان لا يمرّ من دون موافقته. وهذا أقل الإيمان ما دام هو الممسك الفعلي بمصير الجمهورية حتى إشعار آخر. لبنان أضحى خلفه، لا يشكل هاجساً له ولا لمكانته في المعادلة الداخلية. هو الآن في خضم تكريس نفسه في المعادلة الإقليمية لاعباً قوياً لا يمكن تجاهله أو عدم أخذه في الاعتبار. والتوقيت مهم لأن المنطقة تعيش مخاض التغييرات، لا بل الواقع الدولي يتأرجح بتحالفاته. من هنا تكمن أهمية العرض العسكري للحزب في القصير والرسائل التي أراد إيصالها من خلاله.
القول أن «عرض القصير» حمل رسالة للداخل اللبناني قد لا يكون صائباً، لأن «الحزب» ليس في لحظة تأزم مع الأطراف السياسية التي سلمت بموقعه وحتى فائض قوته العسكرية وامتداداتها الإقليمية، بل على العكس قد يبدو أكثر من أي وقت مضى عازماً على تقديم صورة الضامن لنجاح العهد الجديد والرئيس الذي سكن قصر بعبدا بفعل تمسكه به إلى يوم الدين. ما يصح قوله أن الحزب أراد أن يوجّه رسالة للداخل الشيعي، لجمهوره وبيئته الحاضنة التي دفعت أثماناً باهظة في سبيله، وأراد أن يرفع من معنويات ناسه في مناسبة «يوم الشهيد»، حيث اتشحت غالبية العائلات الشيعية بالسواد في حرب تسللت الأسئلة أحياناً كثيرة إلى البيوتات المحزونة عن مبررات الذهاب بعيداً فيها، ذلك أن كل الشعارات التي رُفعت، بداية من حماية المراقد الشيعية إلى حماية الحدود من خطر تمدّد التنظيمات الإرهابية إلى المناطق الشيعية قد تحققت، من دون أن يتوقف «الحزب» عن المضي في الانغماس أكثر في الحرب السورية، حيث يقاتل اليوم في حلب في الشمال السوري البعيد كل البعد عن البقاع الشمالي، خاصرته الحيوية، ومخزونه البشري ومخازن أسلحته وصواريخه البعيدة المدى ومراكز التدريب. وهذه الرسالة تشكّل حاجة له أيضاً ما دامت مستلزمات الحرب تفرض عليه رفع منسوب التعبئة والتحشيد لانضمام شبان جدد إلى صفوفه القتالية.
وإذا كان العرض العسكري استحوذ على اهتمام دولي، لما أثاره وجود دبابات أميركية الصنع ضمنه من علامات استفهام، فإن رسائله الخارجية تحمل في طياتها اتجاهات متعددة، تبدأ من أنه باق في سوريا، وذاهب إلى التوغل أكثر في الحرب والانخراط بها إلى المدى لتحقيق جملة أهداف، أولها المضي قدماً في حماية النظام السوري من خلال تحسين واقع الميدان لمصلحته بما يحسّن أوراقه على طاولة المفاوضات. وثانيها، المضي قدماً في تقوية موقع إيران في المعادلة السورية من خلال تعزيز وضع أذرعها العسكرية من الميليشيات الشيعية، والتي يشكل الحزب الميليشيا الأقوى تنظيماً وقدرة على الأرض مقارنة مع الميليشيات العراقية والأفغانية وغيرها. وثالثها، إظهار مدى إمكانات الحزب العسكرية في وقت يتقدم عنوان القضاء على «داعش» والتنظيمات المرتبطة بـ «تنظيم القاعدة» الأولوية في المرحلة المقبلة مع الإدارة الأميركية الجديدة، بحيث أظهرت تطورات الأحداث في العراق ومحاربة «داعش» البُعد الذي ذهب إليه الأميركيون، ليس فقط في التنسيق العسكري مع إيران، بل التعاون أيضاً مع الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، وصولاً إلى تشريع الحشد الشعبي الذي يخوض معارك تحت المظلة الأميركية وجنباً إلى جنب معه على رغم كل الاعتراضات السنية على ذلك، وعلى نتائج السياسة التي تنتهجها واشنطن إقراراً بدور هذه الميليشيات. وهو أمر قد يتكرر في سوريا، فكما شكا الأكراد، القوة الأكثر ثقة لدى الأميركيين، يمكن عندها أن تدخل الميليشيات الشيعية ضمن القوى التي يمكن الاعتماد عليها تحت المظلة الروسية المقبولة أميركياً، في معركة القضاء على «داعش» ما دامت الاستراتيجية الأميركية المقبلة لا تستثني إمكانية التعاون مع النظام السوري لتحقيق هذا الهدف، وإن كان منظرو الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يؤكدون أن ثمة دوراً رئيسياً لقوى عربية سنية في معركة استعادة سوريا من قبضة القوى المتطرفة، وأنه لن يتم السماح للنظام أن يجيّر الانتصار لمصلحته لاحقاً في التسوية السلمية.
أما الكلام عن أن العرض العسكري وما تضمنه من أسلحة هجومية هدفه توجيه رسالة قوية إلى إسرائيل بأن تحولاً رئيسياً طرأ على تكوين المنظومة العسكرية للحزب. فالعقيدة القتالية التي كانت ترتكز إلى منطق الدفاع وحرب العصابات قد انتقلت بفعل الخبرة التي اكتسبتها من الميدان السوري إلى عقيدة قتالية هجومية، لا بل إن ثمة تحولاً أيضاً جعل منها مزيجاً بين حرب العصابات والجيش النظامي. هذا الكلام الذي تتردد أصداءه في كواليس الحزب يدفع بخبراء عسكريين إلى الاعتقاد بأن ثمة وهماً كبيراً يعيشه الحزب إذا كان فعلاً يعتقد أنه أصبح في موقع القادر على خوض حرب قتالية ذات سمة هجومية ضد إسرائيل، أو حرب شبيهة بحرب الجيوش الكلاسيكية. فإذا كان يعتقد أن ما حققه في القصير أو القلمون والزبداني سابقاً أو ما يحققه في حلب يرتكز على خبرته الهجومية، فإنه يغفل حقيقة أن العامل الحاسم في هذه المعارك هو حجم القوة التدميرية لسلاح الطيران الروسي تحديداً، الذي أجاز للنظام وميليشياته، ومن ضمنها «حزب الله»، أن يحقق انتصارات ميدانية سرعان ما كانوا يخسرونها حيث يخرج سلاح الطيران الروسي من المعركة.
ويذهب هؤلاء إلى السؤال: إلى أي جانب سيكون الطيران الروسي إذا ما وقعت مواجهة بين «حزب الله» وإسرائيل، ما دام الحزب يظهر حنيناً للأيام الخوالي حين كانت بندقيته تصوّب نحو الجنوب قبل أن تفقد بوصلتها؟!