عندما يُؤتى على ذِكر المتن، ولو عَرَضاً، يَحضر اسم ميشال المر كمرادفٍ له، لا بل كعنوان لهذه المنطقة وما تعنيه.
هذه هي حقيقة المتن، سواء أقرَّ بها البعض أو نكروها، ذلك أنّ ما بين هذه المنطقة المسمّاة عروس جبل لبنان، وبين «أبو الياس»، حكاية طويلة، تحكي عن علاقة تاريخية متجذّرة في وجدان المتنيّين، وأقوى من كلّ الحالات العابرة.
في زمنِ الانتخابات؛ زمنِ انكشاف الوجوه، وذوبان المبادئ، والجحود ونكران الجميل، وسقوط الشعارات في قعر المصالح الضيّقة وحسابات السمسرات وأصحاب الصفقات، يقف المتن اليوم، على مفترق طريقين يوصِلان إلى هدفين متناقضين لا يلتقيان:
– الهدف الأوّل، تدفع في اتّجاهه عقلية فوقية، ذاكرتُها مثقوبة، تنظر إلى المتن وأهلِه من فوق، وتُقارب هذه المنطقة كقالبِ جبنةٍ يؤكَل في لحظة جوع، كما هو حال بعضِ الراكبين الجُدد على ظهرها وعلى أكتافها، الذين يمارسون في حقّها عنصريةً سياسية لا سابقَ لها في تاريخ لبنان، ويريدون في انتخابات أيار أن يحوّلوا ربيع المتن إلى خريف يُغيّر وجهَها، ويُسقِط كلَّ أوراقها البيضاء، باستيراد مَن يمثّلها، من عالم النسيان، ومِن موقعه على هامش المشهد، ومِن خلف الصفقات والشبهات لقاءَ حفنةٍ من الدولارات، ليبتلعَها الفجَع الانتخابي والشهوة إلى السلطة والتحكّم والاستئثار.
– أمّا الثاني، فيَدفع إليه تاريخ المتن، الذي إنْ حكى، سينطق بحقيقة أنّ الجانب الأساس من هذا التاريخ وما شهده من محطات على مدى سنوات طويلة، كتِب بحِبر ميشال المر.
هذا التاريخ، الذي يُراد محوُه من قبَل بعضِ المصابين بالنشوة السياسية، يَشهد على مجموعة محطات ووقائع وعناصر تكاملَ فيها البعد الوطني، مع البعد الشخصي والعائلي، مع البعد المتني، مع البعد الخدماتي، مع البعد المسيحي الأرثوذكسي، هذه العناصر مجتمعةً جَعلت من ميشال المر أحدَ أبرزِ الظواهر اللبنانية التي حَفرت عميقاً في الحياة السياسية، إلى حدّ أنّها حازت يوماً على لقب «صانع العهود» وكاتِم أسرارِها والعالِم بخباياها، وبما لها وما عليها. هذا ما يَعترف به الخصمُ قبل الصديق والحليف.
والتي حَفرت عميقاً أيضاً في الحياة المتنية، ورسّخت فيها قاعدةً شعبية صلبة ومتماسكة، لم تتمكّن كلُّ التقلّبات التي ضربت الطقس السياسي والانتخابي طوال العقود الماضية، وخصوصاً في ما سُمّي في الماضي «زمن الهيمنة»، وكذلك «زمن التسونامي»، مِن أن تطيح بهذه الظاهرة، أو بشكل أدقّ، بهذه الزعامة، وتقطع جذورَها وتفكّ ارتباطها بالناس. ولعلّ سرّ هذا التجذّر في علاقة ميشال المر بالمواطن المتني، أنه لم يكن غريباً عن نبضِ الناس، ولم يكن موسمياً في العلاقة معهم، ولم تمنعه النيابة أو الوزارة من العمل الشعبي والتواصل اليومي مع أبسط هموم الناس وأولوياتهم، وما أكثرَها.
ليس سراً، أو مبالغة الإقرارُ بأنّ «أبو الياس»، وكما أتقَن الفنَّ الخدماتي، أتقنَ أيضاً الفنَّ السياسيّ، بكثير من الحنكة والحِرفية وحسنِ التطبيق، واستطاع أن يجعل من كلمة «آل المر»، كلمةً لها وزنُها سواء في عالم السياسة وغير السياسة، وأثبتَ في محطات سياسية حسّاسة وحرجة أنه زعامة عصيّة على الكسر، وَفّرت لها قاعدتُها الشعبية الحصنَ المانع لكلّ محاولات شطبِها من عالم السياسة وإخراجِها من الحديقة المتنية. وفي أحلكِ الظروف وأقسى المحطات صَمد وكاد أن يدفع حياته ثمناً، ولم يتراجع، بل سامح القاتلَ وغَفر وطوى صفحة مَن كمنَ له وحاوَل الغدر به.
تاريخ ميشال المر يشهد على أرثوذكسيته الصلبة، التي لطالما سعى إلى إلغاء تصنيفِها كطائفةٍ مظلومة، بل إلى إحداثِ نقلةٍ نوعية في حضورها السياسي والديني والمعنوي والمشرقي، وتأكيدِ موقعِها كواحدةٍ من المكوّنات الأساسية في المجتمع اللبناني، وبالتالي منعِ أيِّ محاولات لمصادرتها وإلحاقِها أو تذويبِها أو الانتقالِ بها إلى المقاعد الخلفية ضِمن أكثرياتٍ وهمية، نسَجتها تحالفاتٌ منفعية أو مالية، على ما هو حاصلٌ في هذه الفترة.
في زمنِ الانتخابات الراهن، ما أشبَه اليومَ بالأمس؛ عقليةُ ضربِ العائلات والبيوت السياسية تُحاول أن تسود مِن جديد، وتُحاول أن تجتاح المتنَ بالكسر والخلعِ لكلّ الحرُمات والمحرّمات دون أيّ اعتبارٍ للمواطن المتني؛ عقليةٌ يتشاركها منَ افترَض ميشال المر يوماً أنه وفيّ، وها هو يقابل وفاءَه له بالزرع المالح، ومَن كان المر صديقَه وقتَ ضِيقه حينما اعتبَر نفسَه «محشوراً» ومهمّشاً، وها هو يردّ الجميل بنكرانه، ومن كان «أبو الياس» سندَه ومانعاً لسقوطه حينما اعتبَر نفسَه مهدداً وآيلاً للسقوط، وها هو يردّ بالطعنِ في الظهر.
على أنّ ذروة هذا الطعن تبدَّت في محاولات شطبِه، عبر مجموعةٍ مِن الظواهر، منها اللعب على الوقت ومحاولة تضييقِ هامش تشكيلِ لائحته الانتخابية، وكذلك الضغط على المحسوبين عليه من موظفين ورؤساء بلديات، وتوجيه ماكينات الضغط السياسية والأمنية عليهم وتهديدُهم وتخويفهم بفتح ملفاتٍ وبالويل والثبور وعظائم الأمور، ومنها أيضاً الثمن الغالي الذي دُفِع بملايين الدولارات، للإطاحة بأحد النواب الأساسيين والمعروف بتاريخه النضالي الطويل في التيار الوطني الحر، واستبدالُه بشخصية تحيطُها شبهات والكثيرُ مِن علامات الاستفهام.
كلّ هذا، يؤشّر إلى طرفٍ سياسي يعاني من معدةٍ خاوية يريد أن يملأها كيف ما كان، ويدلّ كم أنّ هذا الطرف السياسي «مستقتِل» لإزاحة ميشال المر، على افتراضٍ غبيّ بأنّ كلّ المسيرة التاريخية للرَجل تُعادل مقعداً نيابياً، وإزاحتَه من النيابة تعني إخراجَه من الحياة السياسية والمتنية وإقفالَ بيتِه!
المتن يتذكّر، أنّ ميشال المر صَمد في كلّ المحطات السابقة، وواجَه الرياح السياسية العاتية واستمرّ، فلطالما كان المتنيّون أوفياء مع هذا الرجل، الذي لم يتركهم في اللحظات الصعبة، لا في السياسة ولا في الخدمة، ولا بالإحساس بنبضِهم اليومي وبوجعهم.
والخصمُ قبل الصديق يعرف أنّ المتن هو أحد أكثرِ الأقضية في لبنان نموّاً وحضوراً اقتصادياً، والأكثر بُعداً عن ظواهر الفوضى التي تجتاح أكثرَ المناطق اللبنانية، والمتنيّون يعرفون أنّ بصمات ميشال المر حاضرة في قلب هذه الخصوصية، ويرَون بأمّ العين ما تركته هذه الزعامة من أثرٍ وحضور وفعالية، وبالتأكيد إنّهم سيكونون أوفياء.