من مهندس الى متشرّد تحت الجسر
يسكن في “فيلا” تحت جسر “الفيات” على كورنيش النهر في بيروت، شرفته قاعدة ذلك العمود الضخم الذي يحمل الجسر، وباحته الأمامية مساحة الباطون الغبراء الممتدة بين أعمدة الجسر. جدرانه كرتون من علب منسية وأثاثه بقايا مخلّعة مجمّعة، منّ عليه بها بعض المفضلين. هو واحد ممن ظلمتهم الحياة وهمّشهم المجتمع، بلا بيت يأويه او عائلة تحضنه صارت تلك المساحة الميتة عالمه وبيته ومكتبته الواسعة. إنه محمد اسماعيل المغربي الذي كان يوماً مهندساً وبات اليوم مشرّداً.
منذ سنة وبضعة أشهر خرج من السجن فلم يجد منزلاً يسكنه ولا أهلاً يرحبون بعودته. لم يعرف في الأصل لمَ دخل السجن وكيف أمضى فيه سنة ونيفاً كان فيها موقوفاً لا محكوماً من دون قضية كما يقول ولا حُكم. يرتفع صوته وتختفي الضحكة من عينيه حين يحكي عمن أوصله الى هذه الحال والظلم الكبير الذي لحق به. إنهم سماسرة الأراضي كما يروي أرادوا الاستيلاء على أرض كبيرة المساحة كان يقيم عليها ويتولى رعاية شؤونها وتحصيل عائداتها لصالح أحد الأشخاص… قصة مبهمة يصعب التفريق بين صحتها من عدمه لكن اختصارها يكمن في انتزاعه من بيته وتحويله الى متشرّد يعيش على هامش المجتمع والحياة. يتحدث بلكنة مصرية تدفعنا الى سؤاله عن اصله وجنسيته. يخبرنا أنه لبناني من عرب الوزال في مرتفعات كفرشوبا مولود في بيروت لكنه سافر الى مصر ليدرس الهندسة في جامعة القاهرة وينال فيها شهادة ويصبح عضواً في اتحاد المهندسين . بإسهاب يروي قصته بين مصر وليبيا واليونان وغانا الأفريقية ولبنان، ويطيل في التفاصيل فيبدو صادقاً حيناً وقصّاصاً حيناً آخر. في روايته تضيع الحقيقة لكثرة ما فيها من أحداث تفاصيل لكن الثابت الوحيد أنه بعد حياة يصفها حافلة بالإنجازات بات هنا وحيداً تحت الجسر يقتات من مساعدات الجمعيات وبعض الخيّرين ومن مبيع الكتب التي جمعها وحوّلها الى مكتبة محاذية لمسكنه بحيث بات يصح القول إن جسر الفيات صار بيته ومقر عمله…يكاد يقارب الثمانين من عمره وفق روايته فهو من مواليد العام 1943 لكن من ينظر الى تقاطيع وجهه الملساء التي تختفي تحت لحيته يغالبه الشك في أن يكون قد بلغ هذا العمر حقاً وربما في قرارة نفسه يشعر أنه بات عجوزاً.
يقلّع شوكه بيده
يرفض أن يمد يده لأحد كما يقول بل يعيش بكرامته من بيع الكتب. بعد أن حلّت قضيته بتدخل من وزيرة الداخلية حينها ريا الحسن التي نظرت في ملفات الموقوفين وقضاياهم خرج من السجن. “طلعت براءة” يقولها بحزم و فخر “تقدمت بشكوى مضادة لتحصيل حقي ممن استولى على بيتي والعقار الذي كنت أهتم بشؤونه”. لكن براءته لم تعِد إليه بيته الذي هدم ولا حفظت له مكاناً بين الناس فلم يجد إلا الجسر مأوى له. لم يشأ التوجه الى اقاربه كما يقول فلكل همومه التي تكفي وتفيض. اما عائلته، زوجته وابناؤه، فتلتمع عيناه الزرقاوان حين نسأله عنهم ويتوهان قليلاً في البعيد. فهل ما زالوا يهتمون لأمره؟ أم تركوه لقدره لسبب ما يتحفّظ عن ذكره؟ الغصة في كلامه وشيء من المبالغة يشيران الى مسافة إنسانية وجغرافية تفصل بينه وبينهم و تبرّر وحدته وتشرّده.
الشوك الذي يبدو كثيفاً وحاداً وجارحاً في طريقه لم يأخذ من عزة نفسه وكبريائه “آل المغربي ليسوا شحادين نحن عرب أصيلون لا نمد يدنا، وانا مهندس ولست شحاداً ، حين أمدّ يدي اصبح ذليلاً لذا اتكّل على نفسي. مكتبتي منوّرة الدنيا وأثمن شيء أملكه هو العلم والصيت الحسن”.
مكتبة الكتب المنسية
فخور هو بتلك المكتبة التي انشأها تحت الجسر من تبرعات المحسنين وكل من شاء التخلص من كتب لم يعد يريدها. علاقته بالكتب توطدت حين كان في السجن، وقتها كان يدفع من جيبه للحصول على الأدوات التي تمكنه من معالجة الكتب وإعادة الرونق إليها مثل الغراء والتجليد والتكبيس…كان يجمع الكتب المشرّدة في السجن، المشلّعة والممزقة يعيد جمعها ولصقها لتعود الى بهاء حالتها الأولى، وفي الكتب وجد رفيقاً هو الذي لا يزوره أحد، وفي القراءة ملجأً.
بعد خروجه من السجن لم يخطر بباله أن تكون الكتب مصدر رزق له إلى ان أتاه أحدهم بمجموعة كتب عن الرئيس رفيق الحريري حينها خطر بباله أن ينشئ مكتبة فصار يقصد سوق الأحد ليجمع الكتب القديمة ويتلقى من الناس كتباً لم يعودوا بحاجة إليها حتى باتت مكتبته الصغيرة أو على الأصح تلك الكتب المتراكمة الفوضوية، حافلة بكتب لكلّ الأعمار والمواضيع واللغات والأديان، حتى أن الباحث فيها يمكن أن يجد كتباً بالروسية أيضا. لا يسعّر محمد اسماعيل الكتب ويترك للشاري أن يدفع فيها ما يشاء حتى انه يقدمها هدية لمن يستحليها ويلهي نفسه بقراءة معظمها. وبتلك الألوف القليلة التي يجنيها يشتري لنفسه كتباً وسجائر ومياهاً وأيضاً الشاي…أما طعامه فمن الجمعيات وهو يكفيه ويزيد لا بل يوزع منه لمن هم أكثر منه حاجة.
بلا هوية
محمد اسماعيل المغربي لا يحمل هوية ولا أوراقاً ثبوتية رغم أنه يحاول أن يفتش في جيبه عن ورقة منحه إياها الأمن العام ولا يجدها. وحدها ملفات قضيته موجودة معه كما يخبرنا “الكل يعرف قضيتي والقوى الأمنية كلهم اصدقاء لي، من مركز أمن الدولة القريب الى مخفر الأشرفية الذي يسأل دائماً عن حالي وإن كنت أتعرض لمشاكل، حتى انهم يؤمنون المازوت لي شتاء. انا لا اضايق احداً والكل أصدقائي وأي إنسان ينظر إلي نظرة مغايرة أشيح بوجهي عنه. لا أريد مشاكل”.
يعرف محمد أن منظره كان مخيفاً حين خرج من السجن، لحية غبراء طويلة وشعر أشعث منكوش “كان الناس يخافون مني، رجل لا يعرفونه مرعب المنظر ينام على كرتونة، ثم بدأوا يستوعبون من انا و يتعاطفون معي”. على الرغم من النظرة الفوقية التي يراها في عيون البعض وهم يقودون سياراتهم الفاخرة وبعض النفور الذي يلمحه في عيون المارة حين يرون هيئته ومسكنه إلا أنه “مبسوط من شعب لبنان الطيب الذي لا يتوانى ابداً عن فعل الخير “ويقول” لا ألوم الناس إن كانوا يرون في حياتي مآساة ويزعجهم منظري، انا لست الوحيد الذي يعيش تحت الجسر، مثلي كثيرون ولطالما كان هناك في المجتمع الأغنياء والمتوسطون والفقراء ولا يمكنني الا ان أرى نظرة البعض تجاهي لكنني أتعامل مع كل الناس بلطف ولا أفرّق بين فقير وغني”.
رغم واقعه الذي يكاد يكون مأسوياً يحكي محمد اسماعيل المغربي ويتصرف ويشرح ويناقش كما لو أنه سيد المكان. لم يكسر التشرّد اللمعة البادية في عينيه ولم تحدّ الوحدة التي يعيشها من طلاقته في الكلام. البذلة المعلقة على الجدار الكرتوني المغلفة بالنايلون الشفاف تحكي عن ايام عزّ مضت. لم يرتدها حين خرج من السجن، ربما لأنه شعر أنه مهزوم خانته الدنيا وتلاعب به السماسسرة كما يقول لكنه لا يزال يعلّقها كشاهد على ايام العز التي عاشها.
“الحياة أعطتني الكثير، اعطتني الإيمان والحب لكنها أخذت مني الصبر” ربما الظلم هو ما سلبه الصبر وجعله سريع الغضب، لا يثق كثيراً بالناس…هم انتزعوه من بيته، اعتدوا على مكان سكنه وشرّدوه، سرقوا منه مكانة اجتماعية كانت له وإن متواضعة وحوّلوه نكرة يعيش معزولاً بعيداً عن الناس وحتى اليوم لا يزال وهو في ركنه هذا يتعرض للسرقة من مشردين مثله، يسلبون منه بعض الأغراض ربما لحاجتهم إليها.
ماضي العز
حين يحكي عن ماضيه تتداخل القصص في ما بينها كما يتداخل الوهم بالحقيقة، فهو أعد بحثا حول العمارة الحديثة وأكمل قانون الاقتصاد كما يقول ثم تنقل بين البلدان وتزوج أكثر من مرة من بنات عائلات بيروتية معروفة وافتتح له محالَّ عدة وعمل في الديكور وانضم الى التنظيمات المسلحة في بيروت وساهم في طرد اليهود من بيروت كما يسرد ويستفيض. فكيف تحولت حياة كهذه الى تشرّد ووحدة وفقر وعوز في ركن بائس تحت الجسر يفتقد الماء والكهرباء وكل وسائل النظافة الشخصية؟
نسأله اين يستحم فيخبرنا أنه يقوم بذلك في محطة الوقود القريبة من الجسر لكن حاله لا توحي بأنه يقوم بذلك تكراراً، ويحفظ القليل مما لديه من اطعمة في كومود خشبية مكسرة يتشاركها مع الحشرات والغبار والأوساخ المتراكمة من دخان السيارات وقذارة الشارع فيما تتكدس على الصوفا المخلعة ارتال من الملابس القديمة العتيقة التي جمعها من هنا وهناك.
هل يرغب بمغادرة هذا المكان والعودة الى منزل وحياة طبيعية؟ طبعاً يود استعادة حياته وهو ينتظر أن يبت القضاء في قضيته فهو الآن في مرحلة التقييم كما يروي. ولكن أي تقييم هذا هو الذي ينتظر أن يعيد الى الإنسان إنسانيته وكرامته وحقه بالمسكن؟ أهو حلم يتمناه أم واقع نتمنى أن يتحقق ويعيد الى هذا الرجل الطيب المضياف شيئاً من حقوقه ويعيده الى موقعه بين الناس؟