Site icon IMLebanon

حرب التحرير التي لم يعلنها عون

 

لا حكم ولا حكومة

منذ تسميته لتولّي مهمة تشكيل الحكومة في 22 تشرين الأول الماضي انصرف الرئيس سعد الحريري إلى مهمته الصعبة. أعطى وعوداً كثيرة وأطلق شعارات ومواقف وحدّد مواصفات واعتصم بالصمت وتردّد أكثر من مرة إلى قصر بعبدا، حتى قدّم لائحة التأليف الأولى للرئيس ميشال عون مساء الأربعاء 9 الجاري ليتلقى ردّ الرئيس وتعليقاته ومطالبه. كلّ ذلك لا يخرج عن إطار ما ينص عليه الدستور الذي يجعل مسألة تأليف الحكومة بالتوافق والتشاور بين الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية.

 

في نهاية الأمر لا يمكن أن تتشكّل حكومة إلّا إذا وافق عليها رئيس الجمهورية. توقيعه على مرسوم التشكيل هو الذي يعطيه قوة الحكم. ولا يجب أن يتخلى عن هذا الحقّ الذي أعطاه إياه الطائف. غير صحيح أن الطائف جعل رئيس الجمهورية من دون صلاحيات.

 

الصحيح أنّه نقل السلطة إلى مجلس الوزراء الذي يبقى أمر تشكيله منوطاً أولاً وأخيراً بإرادة الرئيس. إذا تخلّى عن هذا الحق تنازل عن سلطته وإذا تمسّك به حافظ على ريادته وموقعه وصلاحياته ولكن تحت سقف واحد وأعلى هو سقف مصلحة الدولة العليا لا مصلحة قريب أو شريك أو حزب أو أي شخص آخر.

 

على الرئيس أن يعرف صلاحياته وأن يُحسن استخدامها وألّا يجيّرها أو يؤجّرها.

 

حدود صلاحيات الرئيس

 

قبل الطائف كان الدستور يعطي رئيس الجمهورية حقّ تسمية رئيس الحكومة واختيار الوزراء بالشراكة معه بعدما كان يجري استشارات غير ملزمة. ولكنّه في النتيجة ما كان يخرق سقف هذه الإستشارات وكان يدرك حدود صلاحيّاته التي كان يحدّدها الدستور.

 

الممارسة كانت هي التي ترسم الحدود. ولكن في الواقع أيضاً أنّ أيّ رئيس للجمهورية ما كان يمكنه أن يشكل أيّ حكومة إلا بموافقة رئيس الحكومة الذي يسمّيه. بعد الطائف لم تتغيّر الأمور كثيراً. صحيح أن الإستشارات النيابية باتت ملزمة ولكن إذا كان الرئيس ملزماً تسمية من يحصل على أكثرية الأصوات فإنّ أي رئيس للحكومة لا يمكن أن يشكّل حكومة إلا بموافقة رئيس الجمهورية وبالتوافق معه. لا يمكن أن تولد حكومة لا يوافق عليها الرئيس. ولا يمكن أن يخضع الرئيس لأيّ تهويل إلّا إذا كان أسير المعادلة التي أوصلته إلى قصر بعبدا.

 

وتجربة الرؤساء الذين تم انتخابهم بعد الطائف خير برهان على ذلك.

 

تجربة معوّض

 

إذا كان من الممكن إعطاء مثلٍ عن رئاسة ما بعد الطائف يمكن الحديث عن تجربة الرئيس رينيه معوض القصيرة. بعد انتخابه مباشرة تم التعاطي معه على أساس أنه الرأس المقرّر في السلطة السياسية بعد الطائف. وصل معوّض إلى الرئاسة ولكنّه لم يصل إلى قصر بعبدا ومع ذلك كان رئيساً قويّاً. من دارته في إهدن كانت تمر الوساطات والإتصالات من أجل تشكيل حكومة الطائف الأولى. كان بالإمكان توقّع من ستتمّ تسميته رئيساً لهذه الحكومة ولكنّ طريق التأليف كانت تمر عبر الرئيس. إلى إهدن قصده نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ليطلب منه توزير بعض من يريدهم النظام السوري ولكنّه رفض. حُكي كثيراً عن ذلك اللقاء العاصف الذي سبق اغتيال الرئيس معوض بأيام. وكأن قرار تصفيته كان سابقاً لقرار انتخابه.

 

قياس دستور الطائف بني على أساس معادلات جديدة ستنشأ بموجب الطائف للخروج من الحرب. كان المطلوب أن يتم تحقيق خطوات كثيرة ليستقيم الحكم معها: حلّ جميع الميلشيات والعودة إلى المؤسسات وجعل الجيش اللبناني القوة العسكرية الوحيدة على الأرض اللبنانية وسحب الجيش السوري بعد عامين إلى البقاع، تمهيداً للإنسحاب التام وإجراء انتخابات نيابية تمثيلية صحيحة وبناء دولة جديدة وتحقيق التوافق الداخلي والمشاركة الحقيقية. وانطلاقاً من هذا الواقع الجديد طلب الرئيس معوّض أولاً أن يساعد النظام السوري بسحب جيشه من الشمال قبل سحب العماد عون من قصر بعبدا. لا الجيش السوري انسحب ولا العماد عون تنازل. اغتيل الرئيس معوض وحصلت عملية 13 تشرين وانقلبت المقاييس.

 

انقلاب المقاييس

 

أصلاً بدأ انقلاب المقاييس مع انتخاب الرئيس الياس الهراوي. صار رئيساً مع وقف التنفيذ. يسمّي له النظام السوري رئيس الحكومة فيقبل. ويعيّن له الوزراء فيوقّع. ويُعطى حصّة صغيرة فيرضى. يُطلب منه نفي ميشال عون فلا يمانع. وسجن سمير جعجع فيمشي في اللعبة وكأنّه صاحب القرار. ويُعرض عليه مرسوم التجنيس فيرحّب. وما صحّ مع الهراوي كان مسألة أكثر من عادية مع خلفه أميل لحود الذي كان منفّذاً وفيّاً لما يريده النظام السوري.

 

مع الرئيس ميشال عون كان يجب أن تنقلب المقاييس وأن يعود موقع الرئاسة إلى قوّته. في الأساس بدأ عون ضرب صلاحيات الرئيس قبل وصوله إلى قصر بعبدا، عندما كان يعطّل تشكيل الحكومات بقوّة دعم حليفه “حزب الله” لمصلحة تسمية صهره الوزير جبران باسيل وزيراً في حقيبة مختارة. هذه الممارسة السياسية بفعل قوّة “حزب الله” التعطيلية المبنيّة على قوة السلاح تطوّرت لتضرب مفهوم الطائف لتسمية رئيس الحكومة ولتشكيلها. الإستشارات النيابية الملزمة لم تعد تقتصر على تسمية رئيس الحكومة. رئيس الحكومة المكلّف لم يعد يشكّل الحكومة. كأن القوى السياسية التي تسمّيه، تسمّي معه الوزراء الذين يمثّلونها والحقائب التي يتولّونها. بات الرئيس المكلف يوقّع ويحصل على حصّة تُترك له. لا يستطيع الرئيس المكلّف أن يكسر القاعدة وحده من دون مساعدة رئيس الجمهورية. هذه القاعدة كان يمكن أن تُكسر مع تجربة تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب. أن تُكسر في تسميته من خلال اختيار شخص آخر غيره يمكن أن يكون رئيس حكومة إنقاذ وأن تُكسر من خلال تشكيلة اختصاصيين مستقلّة يمكن أن تكون حكومة إنقاذ أيضاً. تمسّك رئيس الجمهورية ميشال عون بحقّه في تحديد موعد الإستشارات ولكنّه لم يتمسك بحق المشاركة في تشكيل الحكومة التي يريدها لبنان ما بعد انتفاضة 17 تشرين. وهذه الفرصة ضاعت مع تسمية السفير مصطفى أديب. بدل أن يقف الرئيس في صفّ إرادة الناس ورغبتهم في أن يكون هناك حكومة تنقذهم من الإنهيار، فاجأهم في أنه اختار أن يكون في صفّ توزيع الحصص والمغانم في زمن الإتجاه السريع نحو جهنّم، التي لم يخفِ توقّعه أن لبنان في ظل عهده وبعد أربعة أعوام على وصوله إلى قصر بعبدا متّجه إليها حتماً. ومع علمه بذلك ومجاهرته به، لا يفعل ما يمكن أن يوقف الإستمرار في السير نحو جهنّم.

 

الحريري وثمن الحكومة

 

لم يكن الرئيس سعد الحريري يرغب في ترك الحكم واستقالة الحكومة بعد ثورة 17 تشرين. استقالته في 29 تشرين الأول 2019 لم تكن بملء إرادته. فقد بدا كأنه يتجرّع كأس السمّ. وقف يتفرّج على فشل حسان دياب وحكومته وعلى انهيار التسميات الأخرى من سمير الخطيب إلى محمد الصفدي إلى بهيج طبارة إلى مصطفى أديب. دارت اللعبة دورتها وعادت الكرة إليه. لا يستطيع الحريري وحده أن يتحرّر من أسر تسميته رئيساً مكلّفاً تشكيل الحكومة من دون مساعدة رئيس الجمهورية. هذا إذا كان يرغب بذلك. التوافق بين الرجلين اللذين أعطاهما الدستور هذا الحقّ يفترض أن يتوافر لديهما الحدّ الأكبر من مسؤولية القدرة على اتخاذ القرار بتحرير الرئاسة الثالثة من الأسر، وتحرير التشكيلة الحكومية من المحاصصة وتحرير الدستور من المصادرة، وصولاً إلى تحرير الشرعية كلّها من الأسر على قاعدة ما أعلنه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظة الديمان في 5 تموزالماضي. ولكنّ رئيس الجمهورية لم يستجب لهذا النداء طالما أنّه يعتبر أن الشرعية ليست في حال أسر وطالما أنّه عاجز عن الخروج من هذا الموقع الذي وضع نفسه فيه. مسألة تشكيل الحكومة تعني حتماً تحرير الشرعية. هي ليست معركة كسر عظم بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. وهي ليست معركة ضد رئيس الجمهورية لتحجيم دوره بعد إجباره على التوقيع على حكومة لا يمكن أن يحكم من خلالها. من الأفضل للرئيس أن يستقيل قبل أن يوقّع على حكومة من هذا النوع. عندما يتنازل عن توقيعه يتنازل عن حكمه. والتنازل لا يعني الرفض بالمطلق من أجل مطلب شخصي أو عائلي أو مصلحي أو نتيجة تأمين استمرار تحالف سياسي. تلك خيانة أكبر من التوقيع لا يمكن محوها من سجلّ الرئاسة والرئيس.

 

ربما كانت معركة تحرير الشرعية هي المطلوبة من رئيس الجمهورية قبل غيره وهذه المعركة يمكن أن تبدأ من تشكيل الحكومة التي يمكن أن تنقذ العهد والجمهورية والدولة والكيان من الإنهيار. ولكن ما يحصل لا يذهب في هذا الإتجاه. بدل حرب التحرير ثمة حروب إلغاء دائرة ومستمرة لن يبقى معها لا حكم ولا حكومة ولا دولة واحدة موحدة.