الخفّة والنكاية التي يتمّ من خلالهما التعاطي مع ملفّ تأليف الحكومة تعكسان مدى ترهّل الأخلاق السياسية في لبنان، ومدى إفتقاد البلاد إلى رجالات دولة يتمكّنون من إجتراح الحلول من رحم الأزمات، من خلال وضع المصلحة الوطنية العليا فوق كلّ الإعتبارات بعيداً من سياسات المصالح الفئوية التي لا يجوز لها أن تسمو فوق المصالح العليا للدولة والوطن.
هل يجوز أن يكون الوضع الإقتصادي والاجتماعي والمعيشي على هذا القدر من السوء والتراجع والانهيار، وتواصل المرجعيات الرسمية المعنية بالتأليف إعتماد السياسات ذاتها والنهج عينه في تشكيل الحكومة المنتظرة؟ وهل يجوز أن يتراجع رئيس الجمهورية عن التزاماته بعد إنتهاء كل إجتماع مع الرئيس المكلّف؟ وهل يحقّ له أساساً أن يُعدّ ويقدّم تشكلية حكومية مضادّة للرئيس المكلّف، الذي يحقّ له وحده وِفق الدستور والأعراف المتّبعة إعداد التشكيلة والتشاور مع رئيس الجمهورية بحجمها وشكلها وطبيعتها وتوزيع الحقائب الوزارية فيها؟
هل يمكن القبول بتكريس أعراف جديدة في كل مرّة تمرّ فيها البلاد باستحقاق رئاسي أو نيابي أو وزاري؟ هل تذكرون الجلسات الإنتخابية المتتالية على مدى شهور لرئاسة الجمهورية التي عطّلت عشرات المرّات لتأمين إنتخاب العماد ميشال عون دون سواه للمنصب؟ أين الديموقراطية في هذا التصرّف الفئوي الأرعن؟ إنّها السياسة ذاتها. المماطلة والتعطيل وممارسة حقّ النقض لإنهاك الأطراف الأخرى وتسليمها بالأمر الواقع.
إنّها سياسة إنتهاك الدستور بصورة منهجية منظّمة، وعن سابق إصرار وترصّد وتصميم من قبل المؤتمن الأوّل على حماية الدستور وتطبيقه! لقد دُفع العهد من قبل غرف قصر بعبدا السوداء التي تضمّ جهابذة السياسة والقانون والدستور إلى التهلكة. ودُفعت معه البلاد إلى الهاوية أو إلى “جهنّم” كما وصفها بدقّة رئيس الجمهورية بقيادته طبعاً.
كم كان كبيراً رئيس الجمهورية لو استدعى الرئيس المكلّف وقال له: “سأوقّع أيّ تشكيلة وزارية تضمّ أصحاب الكفاءة والاختصاص الذين يملكون القدرة على إنقاذ الوضع. لن اقبل أن تنهار البلاد في ولايتي الرئاسية، وأن يسجّل التاريخ أنّني كنت في الموقع الأعلى في الجمهورية ولم أتمكّن من إنقاذ البلاد ومن إستعادة اللبنانيين ثقتهم بوطنهم. الوقت الآن ليس للمحاصصة وتوزيع المغانم، إنّه للإنقاذ وللإنقاذ فقط. وأنت مدعو لتمارس الدور نفسه ونترفّع سوياً عن المكاسب للحيلولة دون سقوط البلاد نهائياً”.
كم كان كبيراً رئيس الجمهورية لو أنّه قال لكلّ الأطراف السياسية: “ترفّعوا عن المطالب والحصص، وابتعدوا قليلاً لنوقف المسار الإنحداري، ولاحقاً تعودون إلى الحكم والحكومة، بعد أن نكون قد طوينا صفحة الإنهيار وباشرنا عملية الخروج من الأزمة”.
ولكن، يا للخيبة! نحن لا نتحدّث هنا عن الجنرال شارل ديغول محرّر فرنسا من الإحتلال النازي، أو عن الجنرال فؤاد شهاب باني المؤسّسات الذي كان يلتزم بما يقوله “الكتاب”. نحن نتحدّث عن الجنرال ميشال عون الذي خاض حربين للوصول إلى قصر بعبدا، والذي عطّل تأليف حكومات لشهور طويلة كُرمى لعيون “صهره”، والذي أطلق معارك وهمية عند كلّ منعطف تحقيقاً لهدفه الوحيد والأوحد… كرسي الرئاسة.
ها قد وصلت يا جنرال إلى كرسي الرئاسة، وانتقلت من الرابية إلى بعبدا، وحقّقت حلمك. لماذا لا تحقّق حلم اللبنانيين بوقف الإنهيار وقيام الدولة والإنماء المتوازن ووقف الفساد، والمدخل إلى كلّ ذلك عودتك إلى الرابية.
وكلّ عام وأنتم بخير!