IMLebanon

عون وعهد الأجنحة المتكسّرة

 

الرئيس غير المنتظر

ماذا ينتظر الرئيس ميشال عون في الأشهر الإثنين والعشرين المتبقية من عهده الذي بات يقاس بالأشهر لا بالسنوات؟ قبل أن يصل إلى قصر بعبدا كانت أحلام الجنرال ومن راهنوا عليه كبيرة وبعد أن وصل بدأت بالتبخّر والضياع وتكسّرت الأجنحة التي كان يريد أن يطير بها إلى عالم الوعد بالإصلاح والتغيير، حتى بات يدور في مكانه بحثاً عن نجاح صغير في زاوية صغيرة في قصر كبير.

 

وصل العماد عون إلى قصر بعبدا مرّتين وفي المرتين ينتهي إلى نكسة وإلى أزمة وإلى خسارة. كثيرون راهنوا عليه وعلى كلامه عن الحرب التي يريد أن يشنّها على الفساد والفاسدين ولكنّهم انتهوا إلى خيبة أمل. كثيرون بدأوا الهروب من المركب الذي سلّموا بأن عون يقوده، بعدما أكثر من الحديث عن القبطان والباخرة التي تغرق على صوت الموسيقى كأنها تعزف لحن الموت في احتفال دفن جماعي، الخارج منه مولود والباقي فيه مفقود أو ذاهب إلى جهنم.

 

عهدا عون الأول والثاني

 

عهد عون الأول وعهد عون الثاني يكادان يتحوّلان إلى مأساة كاملة. في العهد الأول بين 1988 و1990 حلم عون بأن يبقى في القصر حتى ولو على أنقاض مدمّرة، وانتهى منفياً في السفارة الفرنسية قبل انتقاله إلى باريس. في العهد الثاني المستمر منذ 31 تشرين الأول 2016 يحلم عون بأن يبقى في القصر حتى نهاية ولايته. بات كأنه يعد الأيام فقط، مع أن البعض يعتقد أنّه أيضاً لن يغادر القصر هذه المرّة في 30 تشرين الأول 2022 بعد انتهاء ولايته.

 

قبل أن يكلفه الرئيس أمين الجميل رئاسة الحكومة العسكرية ليل 22 ايلول 1988 كان عون يعمل بكلّ جهد ليكون هو الرئيس، محاولاً أن يفرض نفسه على الجميع وهذا ما جعله يستخدم الجيش الذي كان يقوده من أجل تحقيق أهدافه على قاعدة أنه يشكّل عدّة معركته. من دون أن يستخدم هذا الجيش أتاه من رسم له الطريق إلى قصر بعبدا وقدّمه له هدية على طبق من فضة. كان يرفض أن يأتي رئيس غيره وبعد تعيينه رفض أن يتم انتخاب رئيس غيره. ذهب إلى حرب التحرير ورفض اتفاق الطائف ثم إلى حرب الإلغاء ليبقى في القصر الجمهوري. لم يدرك ما كان يدور حوله ولم يقرأ التحولات الدولية ولا استمع إلى النصائح التي أتته من أكثر من مركز قرار، وتجرّع كأس 13 تشرين التي شربها معه الكثيرون.

 

بعد العام 1990 كان بإمكان الجنرال أن يحلم بالعودة مع أن الأحلام تلك كانت مجرّد أوهام، لو لم يتحقّق انسحاب الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وتحت ضغط القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والداعي إلى سحب هذا الجيش وحلّ الميليشيات المدعوم بالقرار الأميركي الحازم بالتغيير الجذري في لبنان.

 

رئاسة بالقوة

 

 

 

منذ عاد عون إلى لبنان في 7 ايار 2005 تصرف على أساس أنّه الرئيس المنتظر. كان مدركاً أنّ كل الوسائل والتحالفات ممكنة في سبيل تحقيق هذا الهدف. وهذا كان يعني أن لا تحالفات مقدّسة ولا خصومات لا عودة عنها. من هنا كان تفاهمه مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في 6 شباط 2006، وانفتاحه على النظام السوري وذهابه إلى دمشق متخطياً كل ما سببه سابقاً من جروح وآلام لا يمكن أن تمحى. بات القرار 1559 بالنسبة إليه شيئاً من الماضي.

 

لم يعترض عون الحالم بالرئاسة على ما فعله “حزب الله” في 7 أيار 2008. كان يريد أن تحمله هذه الحملة العسكرية إلى قصر بعبدا ولكنّ تسوية الدوحة في قطر حملت قائد الجيش العماد ميشال سليمان. بقي عون يعتبر أن الرئاسة سلبت منه وأنه حرم ممّا هو حقّ له. ولذلك بالتكافل والتضامن مع “حزب الله” كرّس الفراغ في رئاسة الجمهورية، من خلال تعطيل نصاب جلسات الإنتخاب من 25 ايار 2014 حتى 31 تشرين الأول 2016.

 

صحيح أنه مع “حزب الله” كان يمكنهما أن يقطعا الطريق على أيّ رئيس غيره ولكنّهما كانا يعرفان أيضاً أنّه لا يمكن أن يصل إلى قصر بعبدا من دون قبول “القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل”. على هذا الأساس بنى اتفاق معراب مع الدكتور سمير جعجع قبل أن ينضم الرئيس سعد الحريري إلى القبول بانتخابه. وصول عون إلى قصر بعبدا كان يجب أن يقترن بالبدء بعملية إصلاح كبيرة مستنداً إلى الدعم الواسع الذي حظي به، ولكنّه بدل ذلك اتّجه إلى تأكيد أنه رئيس تيار سياسي قبل أن يكون رئيساً للجمهورية، وتصرّف على أساس أنه شريك في الحصص قبل أن يكون رئيساً للجمهورية. هذا الإتجاه برز مع تشكيل الحكومة الأولى للعهد برئاسة الرئيس سعد الحريري. بدلاً من أن يحكم بقوة التحالفات التي أوصلته ذهب في اتجاه تأمين طريق الرئاسة إلى صهره جبران باسيل. تنازل له قبل انتخابه عن رئاسة “التيار الوطني الحر” وأراد ألا يتنازل عن الرئاسة إلّا له أيضاً. بعد أربعة أعوام فقط من عهده يكاد يخسر الرئاسة وحلم توريث باسيل.

 

قد يكون الإنجاز الأهمّ الذي تحقّق مع عهد الرئيس عون هو قانون الإنتخابات الذي أقرّ في مجلس النواب الممدّد له والذي جرت على اساسه الإنتخابات النيابية في أيار 2018. ولكن بدلاً من أن تكون هذه الإنتخابات مدخلاً إلى تجديد الرئاسة وإعلان بداية جديدة لها بقي عون في إطار الممارسات التي اعتمدها. بدل أن يستعيد قوة العهد من خلال التأكيد على التفاهم مع “القوات اللبنانية” ذهب في اتجاه معاكس لهذا الخيار على قاعدة ضرب “القوات”، بعد النجاح الذي أحرزته في تلك الإنتخابات وترجم هذه السياسة من خلال تحديد حجم التمثيل الوزاري لـ”القوات”. هذا المسار الذي لم يستطع معه عون الخروج من دائرة التسليم بتوريث الرئاسة لباسيل انتهى إلى السقوط في 17 تشرين الأول 2019 تحت أقدام الناس، الذين نزلوا إلى الشوارع معلنين رفضهم لهذا النهج الذي صبغ العهد. منذ ذلك التاريخ بدا وكأن العهد تكسّرت أجنحته كلها أو بدأت تتكسّر. وكأن السقوط النهائي بات مسألة وقت فقط.

 

بين بكركي وحارة حريك

 

من أكثر من مكان تلقى العهد الضربات. وبدل أن يعيد تموضعه التصق أكثر في تحالفه مع “حزب الله” ومع المحور الذي يمثّله في المنطقة. وبدل أن ينجو بنفسه أكّد أنه يربط مصيره بمصير “الحزب”، يبقيان معاً أو يخسران معاً.

 

في 5 تموز 2020 رمى له بطريرك الموارنة مار بشارة بطرس الراعي حبل نجاة من خلال طرح مسألتين أساسيتين: تحرير الشرعية من الأسر وإعلان حياد لبنان برعاية دولية، ومن خلال تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التي تؤكد على استعادة لبنان حريته وسيادته الكاملة على كامل أراضيه، ولكنّ عون فضّل أن يبقى في الأسر بدل أن يتحرّر ويحرّر الرئاسة والشرعية.

 

كان عون يستطيع أن يتحالف مع ثورة 17 تشرين بعد انطلاقها ليشكّل معها مدخلاً إلى معركة الإصلاح الحقيقي. كان يكفي أن يغطّي تشكيل حكومة تحمل أهداف الثورة ومطالبها كي يضمن بدء عملية التغيير، ولكنّه اختار أن ينقضّ مع “حزب الله” على هذه الثورة التي عادت وارتدّت عليه. بدل أن ينقذ نفسه وعهده أدى خياره المعاكس إلى تفكيك عهده وتفكيك تياره وتفكيك عائلته. كل ذلك تحمّله عون مقابل أن يعيد التأكيد على أنّه لا يريد إلّا توريث باسيل. على رغم الدمار الذي خلّفه انفجار العنبر رقم 12 في بيروت ومرفئها لم يتزحزح عون وكأنّه بات في غربة عما يدور حوله.

 

بعد كل ذلك يأتي من يقول إن عون قد لا يترك قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته لأنّه ربّما لا يزال يؤمن بأنّه الرئيس المنتظر مرّة ثانية. لا يحقّ له الترشح ثانية ولكنّه قد يبقى على أساس أنّه يريد أن تستمرّ المؤسسات. ولكنّ مثل هذا الأمر مخالف للدستور ولا يمكن أن يعيد التاريخ نفسه من خلال استعادة تجربة العام 1989، عندما رفض تسليم القصر الجمهوري للرئيس رينيه معوض وحوّله إلى قصر للشعب. اليوم يتبدّل المشهد كثيراً. الرئيس عون يحوّل القصر إلى سجن كبير يسجن نفسه فيه ويحول دون وصول الناس إليه، ليس لسبب إلا لأنّهم باتوا يعارضون بقاءه هناك ولأنّه صار رئيس الأحلام المحطمة.