لم تمرّ حملة التصعيد السياسي التي بدأها صهر رئيس الجمهورية النائب جبران باسيل ضد رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري واستتبعها الرئيس عون بمسرحية الفيديو المسرب عمداً، متهماً الحريري بالكذب، هكذا ببساطة من دون تداعيات سلبية مؤثرة على عملية تشكيل الحكومة العتيدة، وكأنها خلاف عرضي طبيعي وعادي بين السياسيين، بل تسببت هذه الحملة الذي تجاوز فيها رئيس الجمهورية الحد الأدنى من أصول اللياقة المعتادة في التعاطي مع رئيس الحكومة المكلف، في تعميق أزمة الثقة المفقودة بين الطرفين أساساً وفي مراكمة المزيد من التعقيدات والعوائق في مسار تشكيل الحكومة الجديدة، والأهم أظهرت مواقف كل طرف من عملية التشكيل على حقيقتها، وحددت بوضوح من يريد تشكيل الحكومة ومن لا يريد تشكيلها.
ما هي الخيارات المتاحة امام رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بعد حملة التصعيد هذه؟
سؤال يطرح بإلحاح بين السياسيين في غمرة الأزمة التي تسببت بها هذه الحملة المتعمدة المكشوفة الأهداف وأولها، احراج الرئيس المكلف كما درجت عادة العهد في تعاطيه، لاخراجه من عملية تشكيل الحكومة الجديدة، وباظهار الفريق الرئاسي بأنه حقق انتصاراً سياسياً بإبعاد الحريري ليخلو له الجو السياسي ويسعى إلى توظيف هذا الواقع في إعادة لملمة المنفلتين من صفوف التيار، كبارهم وصغارهم، المقربين منهم والاقرباء على وجه الخصوص وضمهم إلى جناحه من جديد، لتلميع صورة العهد المتلاشي حتى الحدود الدنيا من جهة وإعادة النهوض بوهج وصورة رئيس التيار جبران باسيل المتآكلة ومحاولة تجاوز تقليص شعبيته داخل التيار وخارجه والتقليل من مؤثرات العقوبات الأميركية المفروضة عليه.
ولكن هذه المرّة، لم تجرِ الرياح كما تشتهي سفن العهد المهددة بالغرق من ثقل الممارسات الفاشلة والعجز الفاضح في إدارة السلطة، بل سارت الأمور عكس التوقعات والطموحات المرسومة، لأن رئيس الحكومة المكلف لم ينصَعْ هكذا ببساطة للعبة اخراجه من عملية التكليف على هذا النحو المرسوم من الحملات الممجوجة. تأثر بفحوى حملة رئيس الجمهورية وانحدار تعاطيه بمثل هذه الاتهامات الزائفة ضده، اتهامات سرعان ما انقلبت على مطلقها رأساً على عقب كونها تفتقد لأدنى مقومات الحقيقة والواقعية التي كشفتها وقائع اللقاءات الموثقة بين الرئيسين امام الرأي العام بوضوح.
حملة التصعيد السياسي حددت بوضوح من يريد تشكيل الحكومة ومن لا يريدها
لم تخلُ الساحة للعهد وفريقه كما كانوا يطمحون لذلك، ليتسنى لهم تكرار تجربة تشكيل حكومة على قياس مصالحهم وممارساتهم كما هي حال الحكومة المستقيلة، تسبب رفض الرئيس المكلف بالاعتذار في إرساء واقع جديد، استمرار رئيس الجمهورية فيما تبقى من ولايته، بالتوازي مع استمرار رئيس الحكومة المكلف بمهمته لتشكيل الحكومة الجديدة متسلحاً بالتوازنات السياسية والأكثرية التي منحته تأييدها لتشيكل حكومة إنقاذية استناداً للمبادرة الفرنسية، وليس كما يطمح صهر رئيس الجمهورية وفريقه السياسي بتجاوز هذه المبادرة والالتفاف عليها بطرح مطالب وشروط تعجيزية أصبحت مكشوفة، للاستئثار بقرارات وسياسة الحكومة المرتقبة كما كان الحال عليه في الحكومات السابقة.
أصبحت الخيارات محدودة امام رئيس الجمهورية وفريقه بعد المأزق الذي تسببت به الحملة التصعيدية ضد رئيس الحكومة المكلف، ولم يستطع تجاوزه بعدما وجد نفسه يعزف منفرداً على وتر الطروحات الاستفزازية طائفياً ومذهبياً ووطنياً، ولم يستطع استلحاق تأييد قوى وأطراف سياسية ودينية لتدعم توجهاته وسياساته وممارساته المرفوضة من أكثرية اللبنانيين.
فإما أن يُبادر إلى اختراع تخريجة اعتذارية مقبولة لاتهاماته المرفوضة ضد رئيس الحكومة المكلف، تنهي تداعيات العاصفة السياسية التي تسبب بها هو وفريقه، ويعيد إطلاق عملية تشكيل الحكومة الجديدة إلى مسارها الطبيعي بالبحث ومناقشة التشكيلة الحكومية التي سلمها له رئيس الحكومة المكلف ضمن الشروط والمواصفات التي تستند إلى المبادرة الفرنسية وتقتضيها المرحلة الحالية، وإما أن يتشبث بأسس الحملة التصعيدية المرفوضة من أكثرية اللبنانيين ويستمر واقع الأزمة التي تسبب بها على هذا النحو إلى وقت غير محدد، وما يمكن ان يؤدي إليه هذا المسار السلبي من تداعيات وتراكم المزيد من الأزمات على أنواعها.
ولكن في مطلق الأحوال، لم يعد ممكناً تجاوز سقف التشكيلة الحكومية المطروحة لتأليف الحكومة المرتقبة لأن ما كان يمكن لرئيس الجمهورية ان يطرحه قبل حملة التصعيد الممجوجة، أصبح صعباً تحقيقه في ظل المأزق القائم حالياً، وإلا استمر تآكل ما تبقى من عمر العهد دون جدوى كما هي الحال في الوقت الحاضر.