لم يسبق أن شهد لبنان هذا المستوى من الاحتقان الطائفي والمذهبي في فترات الهدوء والاستقرار، بل كان يتفاقم الأمر بشكل مريع في حقبات الصراع العنفي والدموي التي وصلت إلى ذروتها في الحرب الأهليّة الطاحنة. ولكن ما تشهده البلاد اليوم غير مسبوق نتيجة الخطاب الشعبوي والفئوي، الذي لا يرمي سوى إلى استقطاب الشارع والشارع المضادّ وتأجيج المشاعر المذهبيّة بهدف تحقيق بعض المكاسب الآنيّة والمرحليّة.
ولعلّ المثال الأكثر سطوعاً في هذا المجال هو نصب الحواجز الطائفيّة (التي لا تقلّ خطورة عن الحواجز الميدانية التي انتشرت خلال مرحلة الحرب) أمام أيّ خطوات سياسية أو دستورية أو حتّى قانونية تتّخذ حيال من هم في مواقع السلطة، ومنها مثلاً تلك الخرافات التي صارت ترتكز على أنّ استهداف شخص ما في موقع ما إنّما هو استهداف للطائفة التي يمثّلها، وليس إلى الدور الذي يؤدّيه.
مناسبة هذا الكلام هو ما بتنا نشهده من محاولات مستمرّة لإضفاء “قدسيّة” ما على مواقع سياسية معيّنة وفي طليعتها رئاسة الجمهورية. من قال إنّ رؤساء الدول والجمهوريات هم فوق المحاسبة والمساءلة؟ ومن قال إنّ المطالبة باستقالتهم تلامس “الكفر السياسي”؟ ألا يكفي ما تقوم به أطراف دينية تشتغل بالسياسة من تخريب لمرتكزات العمل السياسي والوطني بسبب إرتباطاتها وأجنداتها الخاصة بما يفوق قدرة البلاد على الاحتمال؟ ألا يشاهد البعض كيف يتنحّى المسؤولون عن مهامهم السياسية والوظيفية طوعاً عند وقوع أي حادث أو تفجير، ويتحمّلون المسؤولية المعنوية لمجرّد وجودهم في سدّة المسؤولية عند حصول الحادث؟
في التجارب التاريخية اللبنانية المعاصرة، أقيل الرئيس بشارة الخوري في ثورة بيضاء سنة 1952، وهو كان له رصيده الوطني الكبير وأوّل رئيس جمهوريّة منتخب بعد الاستقلال ويتمتّع بشرعية سياسية واسعة، وشاركت في إسقاطه أطراف من مختلف المكوّنات اللبنانية، ولم يتنطّح أحد للقول إنّ تلك الثورة استهدفت الطائفة المارونية أو المسيحيين عموماً، كما لم توجّه أي اتهامات للمسيحيين المشاركين في الثورة بأنّهم خونة أو عملاء أو بأنهم إنقضّوا على “حقوق الطائفة”.
وفي العام 1958، قامت الثورة رفضاً لممارسات الرئيس كميل شمعون ومحاولات إستلحاق لبنان بمحاور معيّنة، وقطعت الطريق على التجديد الذي كان يسعى إليه لولايته الرئاسية، وسقط مشروع التجديد، ولم تُوجّه الاتّهامات لمفجّري الثورة وفي مقدّمهم كمال جنبلاط وكوكبة من السياسيين بأنّهم يستهدفون الموقع المسيحي الأوّل في الدولة. وانتخب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية، وتواصلت دورة الحياة السياسية بشكل طبيعي.
تصوّروا أن ّرئيسين “قويّين” مثل بشارة الخوري وكميل شمعون يسقطان في الشارع ولا يجرؤ أحد على مقاربة المسألة من الناحية الطائفية، في حين يبقى رؤساء من أمثال إميل لحود وميشال عون في القصر فقط تلبية للغرائز المذهبية المقيتة! حتّى أنّ بعض “الأحزاب المسيحية” الكبرى التي كان لها الدور الأساسي في وصول الأخير إلى الرئاسة وعادت وندمت على قرارها، تنفض يدها من المطالبة باستقالة الرئيس، بالرغم من إدراكها للثمن الباهظ الذي دفعته البلاد بسبب خياراتها السياسية.
هل تحلّ إستقالة رئيس الجمهورية الأزمة بصورة فورية؟ حتماً لا؛ ولكنّها تشكّل مدخلاً طبيعياً لإعادة تكوين السلطة وِفق أسس جديدة تراعي تطلّعات الشباب الذين من حقّهم أن يحلموا بالتغيير وأن يشاركوا في صناعته. ولكن الرئيس باق في موقعه بزنود سواه. إنّها الزنود ذاتها التي أوصلته إلى قصر بعبدا.