ما كشفته التجارب التي مرّ فيها لبنان منذ الاستقلال في العام 1943 ان الحكمة لدى رئيس الجمهورية اهمّ بكثير من القوّة، فكيف اذا كان الرئيس، كما الحال حاليا، يتوهّم انّه قوي. كيف يمكن ان يكون الرئيس قويّا، بالفعل، متى كان مصدر هذه القوّة سلاح «حزب الله» غير الشرعي الذي لا يمكن تشبيهه سوى بالسلاح الفلسطيني ما قبل العام 1982. مع فارق ان لبنانيين يحملون هذا السلاح الموضوع في خدمة قوّة اجنبيّة.
ليس مستغربا تحوّل لبنان الى دولة فاشلة وان يكون مستقبله غامضا كلّ الغموض بعدما صار يعيش في ظلّ وهم القوّة، قوّة سلاح «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني. همّ هذا الحزب الحصول على غطاء مسيحي لسلاحه كلّما دعت الحاجة. امّا حقوق المسيحيين التي يستخدمها رئيس الجمهورية ميشال عون لمنع تشكيل حكومة «اختصاصيين» برئاسة سعد الحريري، فهي آخر همّ لإيران وللميليشيا التي تستخدمها للسيطرة على البلد بكلّ مؤسساته وعلى قراره السياسي. في استطاعة لبنان البقاء دون حكومة الى أبد الآبدين. لن يرفّ لإيران جفنٌ.
ما يستحقّ التوقف عنده هذه الايّام ان ليس هناك طرف محلّي مهتمّ بشغل حقيبة وزارة الخارجية بعدما اكتشف اللبنانيون، الذين يتمتعون بحدّ ادنى من الذكاء، ان بلدهم صار في مكان آخر وانّ عزلته العربيّة والدولية صارت مكرّسة.
لم تزر السفيرة الأميركية دوروثي شاي رئيس الجمهورية أخيرا في قصر بعبدا سوى لتؤكّد له، في ضوء دخول جو بايدن البيت الأبيض، انّه لم يتغيّر شيء في واشنطن، اقلّه بالنسبة الى لبنان. لا تزال السياسة الأميركية التي اتبعتها السفيرة نفسها في عهد دونالد ترامب قائمة. تشمل هذه السياسة في طبيعة الحال استمرار العقوبات، بموجب قانون ماغنتسكي، على جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ورئيس «التيّار الوطني الحر» الذي دخل في سجال مباشر مع السفيرة شاي. اضطرّ ذلك السفيرة الى وضع جبران في مكانه الطبيعي وجعله يأخذ الحجم الصغير الذي يستأهله عبر كلام صادق وتصريحات قصيرة مدروسة جيّدا.
لا يمكن الاستخفاف بما نجح «حزب الله» في تحقيقه لبنانيا على كلّ صعيد. جعل المواجهة تبدو ظاهرا، بالنسبة الى لبنانيين كثيرين، مواجهة بين السنّي والمسيحي وان السنّي ممثلا بسعد الحريري يريد حرمان المسيحي، ممثّلا برئيس الجمهورية، من حقوقه… في حين ان الحقيقة في مكان آخر.
الحقيقة في مكان آخر لسببين على الاقلّ. أولهما ان مصير لبنان كلّه على المحكّ وان الامر لا يتعلّق بالسنّي او المسيحي او الشيعي او الدرزي بمقدار ما يتعلّق بكل مواطن. امّا الامر الثاني، فهو متعلّق بسلاح «حزب الله» الذي لا يتحدّث عنه رئيس الجمهورية والمدافعون عنه وعن تصرّفاته المسيئة الى موقع الرئاسة. هل وجد في تاريخ الجمهورية اللبنانية رئيس للجمهورية يصف رئيس الوزراء المكلّف بانّه «كذاب» في حين هناك اثباتات ملموسة، بالصوت والصورة، على انّ سعد الحريري قال الأمور كما هي من دون زيادة او نقصان.
يظلّ السلاح الميليشيوي والمذهبي، الذي لا يريد ميشال عون الاعتراف بوجوده، لا في لبنان ولا في سوريا ولا في العراق ولا في اليمن، في أساس المشكلة في لبنان. هذا السلاح وراء كلّ العقوبات على لبنان وعزلته العربيّة والدولية ووراء انهيار الاقتصاد الوطني والنظام المصرفي الذي كان العمود الفقري للاقتصاد. جعل السلاح الايراني من اللبنانيين فقراء.
استخدم «حزب الله» ما يسمّى بـ«العونيين» افضل استخدام. ربّما يعرف انّهم لا يصلحون لغير ذلك. يتجاهل الحزب انّ اللبنانيين يعرفون، في معظمهم، اين لبّ المشكلة وما يعاني منه بلدهم بالفعل. إنّه يعاني من هيمنة السلاح غير الشرعي قبل ايّ شيء. وهذا ما يرفض رئيس الجمهورية، الباحث عن انتصارات على اهل السنّة، الاعتراف به والتحدّث صراحة عنه.
في كلّ مرّة حاول فيها رئيس الجمهورية، أي رئيس للجمهورية اللبنانية، اللجوء الى القوّة، كانت النتيجة الحاق الضرر بلبنان. المخيف هذه المرّة ان الضرر الذي لحق بالبلد غير قابل للإصلاح باي شكل، خصوصا في غياب الحكمة التي تمتع بها شخص مثل بشارة الخوري فضّل الاستقالة في العام 1952 على مواجهة الناس. وفي 1964، اختار فؤاد شهاب، في نهاية عهده، الحكمة كي يقول للبنانيين ان احترام الدستور واجب على رئيس الجمهورية قبل غيره وأنّ رئيس الجمهورية يغادر القصر مع انتهاء ولايته. امين الجميّل فعل ذلك أيضا.
بين لبنان الماضي الذي كان فيه رؤساء يلجأون الى الحكمة ولبنان الحالي حيث كلّ شيء مبرّر باسم وهم القوّة والدفاع عن حقوق المسيحيين، طار البلد ولن يجد مكانا يحطّ فيه.
عندما ينتصر وهم القوّة على الحكمة، يصبح كلّ شيء مباحا، بما في ذلك الكلام بلغة لا علاقة لها بالمنطق. المنطق يقول انّ البلد انهار ولم يعد سوى ورقة، بين أوراق أخرى، تستخدمها ايران المستعجلة الى فتح حوار مع الإدارة الأميركية الجديدة. المنطق يقول أيضا انّ تشكيل حكومة «اختصاصيين» هو السبيل الوحيد لمباشرة البحث عن مخرج للبنان بمساعدة فرنسية وأوروبية وبمباركة إدارة أميركية يبدو رئيسها مستعدّا للتجاوب ما قد يطلبه منه البابا فرنسيس.
الى ذلك كلّه، يقول المنطق ان المنطقة كلّها مقبلة على تغييرات كبيرة، فيما لا يوجد في موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية من يمتلك حدّا ادنى من الادراك لما يدور في الشرق الأوسط والخليج والعالم، حتّى لدى الجار السوري. هذا ما يدعو الى الخوف على لبنان والتشاؤم بمستقبله اكثر من ايّ وقت.
ما الذي يمكن توقّعه من بلد رئيس للجمهورية فيه، لم يستوعب الى الآن معنى تفجير مرفأ بيروت وانهيار النظام المصرفي، رئيس يؤمن بوهم القوّة وانتصار هذا الوهم على الحكمة!