IMLebanon

عهد التعطيل وإدارة الفراغ في السلطة.

 

الملفات القضائية التي يدور السجال حولها وخاصة لجهة الصلاحية التي تعود لشاغلي المواقع في المفاصل الأساسية للسلطة القضائية، ليست اقل من الملفات السياسية وتلك المتعلق بتنازع الصلاحيات بين المؤسسات الدستورية.واذا كان  السجال حول التحقيق الجنائي في هدر الأموال العامة، دخل زواريب السياسية واصبح مادة تجاذب، الا ان الدور الذي يمارسه المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان منذ تولى مهامه في التشكيلات القضائية التي أجريت قبل ثلاث سنوات،  اصبح موضع إشكالية بعدما تبين ان ممارسته لوظيفته لا تخضع للمقاييس القانونية بقدر ما تخضع للمقاييس السياسية التي تحدد ضوابطها المرجعية السياسية التي لا تخفي ان هذا المرجع محسوب عليها في السياسية. وآخر إشكالية اثارها المدعي الاستئنافي في جبل لبنان،  هي دخوله على خط مقاضاة حاكم مصرف لبنان، تارة لعلاقة ملتبسة مع نقابة الصرافين، وتارة بجرم الإهمال الوظيفي وإساءة الأمانة .

 

ان الموضوع لا يرتبط بموقف الدفاع عن حاكم المصرف المركزي،  وما اذا كان يتحمل مسؤولية كاملة او جزئية في الانهيار المالي. ما ترتب عن الهندسات المالية من نتائج سلبية على الملاءة المالية العامة للدولة، فهذا يكشفه التحقيق الجنائي اذا وضع على سكة التنفيذ. بل الموضوع يتعلق بتجاوز المدعي العام في جبل لبنان لصلاحياته الوظيفية.

ان صلاحية النائب العام الاستئنافي حددها قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة ٢٤، وليس فيها ما يخوله ملاحقة  الجرائم المالية الناتجة عن إدارة المال العام وتلك التي نص عليها قانون النقد والتسليف. فهذه الجرائم منح القانون صلاحية الملاحقة بشأنها الى النيابة العامة المالية . فالمادة ١٩ من قانون أصول المحاكمات الجزائية نصت على ان المدعي العام المالي يتولى الملاحقة بالجرائم الناشئة عن مخالفة قوانين الضرائب والرسوم، والجرائم الناشئة عن مخالفة القوانين المصرفية والمؤسسات المالية  والبورصة ولا سيما المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، وجرائم تقليد العملة وتزييف وترويج العملة، وجرائم اختلاس الأموال العمومية وجرائم الإفلاس.

وفي مجال تراتب الأهمية، فإن النائب العام المالي يتقدم على النائب  العام الاستئنافي،  فالاول يتم تعيينه بمرسوم في مجلس الوزاء اما الثاني فيتولى موقعه في اطار التشكيلات القضائية، او التكليف او الانابة بقرار من الرئيس الأول الاستئنافي بعد الاستئناس برأي الرئيس الأول لمحكمة التمييز . وان النائب العام المالي يتمتع في حدود المهام المهددة له بالقانون بالصلاحيات الممنوحة للنائب العام التمييزي .

اذاً، ان الجرائم المالية التي نص عليها قانون أصول المحاكمات الجزائية على وجوب  ملاحقتها،  اعطى الصلاحية فيها للمدعي العام المالي، ولذلك فان قيام المدعي العام الاستئنافي بالادعاء وملاحقة اشخاص الحق العام او الحق الخاص الذين يرتكبون افعالاً جرمية من تلك التي نصت عليها المادة ١٩، انما تخرج عن صلاحيته.

وبالتالي فإن ادعاء مدعي عام جبل لبنان على حاكم مصرف لبنان يخرج عن نطاق صلاحيته، واذا حصل  ان تقدم احد بدعوى ضد الحاكم امام النيابة العامة الاستئنافية بجرم نصت عليه المادة ١٩ (ا .م.ج )، فالاصول تفرض إحالة الشكوى الى النيابة العامة التمييزية لتحيلها بدورها الى مرجعها المختص. اما وان هذا الامر لم يحصل، فإن القضية تخرج عن سياقاتها القانونية ليتبين انها داخلة في سياقات سياسية، بحكم العلاقة التي تربط المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان بالمرجعية السياسية التي توحي له بما يجب القيام به، لا هم إن كان التصرف مخالفاً للأصول القانونية او حتى للدستور الذي يؤكد على الفصل بين السلطات .

لقد بات واضحا ان ما يقوم به المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان انما يفسر بمفعول رجعي،  لماذا لم يصدر مرسوم التشكيلات القضائية الذي  وضع في جوارير القصر الجمهوري ولم يفرج عنه حتى الان.

لقد اصبح مؤكداً ان التشكيلات القضائية لم تصدر ولن تصدر،  لانها لم تأتِ على قياس مصالح رئاسة الجمهورية التي لاتتصرف باعتبارها موقعاً فوق المحاصصات، بل تتصرف   باعتبارها موقعاً لطرف سياسي يستثمر ثقله المعنوي والدستوري لابقاء من هومحسوب عليه في موقعه الذي ينفذ من خلاله اجندة أهداف سياسية ومنافع خدمية .

فعندما تقدم الرئاسة نفسها بأنها ممثلة لقوة سياسية، فلا عجب ان تحصل عملية خرق للدستور تارة بتجاوز احكامه، وتارة بتأويلها خلافاً للنص، كما في التفسيرات اللادستورية المتعلقة بصلاحية تشكيل الحكومة، التي اناط الدستور مهمة تشكيلها بالرئيس المكلف وفقاً لمنطوق البند ٢ من المادة ٦٤. وعندما تمتنع رئاسة الجمهورية عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية، لإبقاء من هم محسوبين عليها في مواقعهم لتوظيفها في إدارة الصراع السياسي، فلا غرابة ان تمتنع عن اصدار مراسيم تشكيل الحكومة، وإبقاء البلد في حالة فراغ حكومي. فمن اجل عيون المرجعية السياسية التي يمثلها رئيس الجمهورية تتعطل عملية تشكيل الحكومة،  ومن اجل التشبث بموقع قضائي حساس تتعطل عملية التشكيلات القضائية. ولهذا فإن ما ينبطبق على العهد من توصيف،  هو ليس ما يسمونه بالعهد القوي، بل هو عهد التعطيل وإدارة استمرار الفراغ في السلطة وحال السلطتين التنفيذية والقضائية مثالاً.