يحب الرئيس ميشال عون أن يذكّر زواره أنه رجل المبادئ الذي يرفض التسويات. «تستطيعون أن تسحقوني لكنكم لن تأخذوا توقيعي»، كان يقول. إنه «العنيد» الذي لا يساوم. يخرج من قصر بعبدا مهزوماً لاجئاً إلى سفارة فرنسا ليعود إليه رئيساً بعد أكثر من ربع قرن، مستفيداً من صفقات مع السوريين و«حزب الله»، خصوم الأمس الذين حاربهم وحاربوه.
لا يجد عون حرجاً في ذلك «العناد»، رغم أن كلفة العودة كانت أفظع من نكسة الخروج من القصر، خصوصاً إذا جرى حساب التنازلات وثمن الصفقات في مقابل شعارات «حماية السيادة واستعادة الاستقلال». والتاريخ المليء بالعِبَر كان يفترض أن يبقى في الذاكرة. لكن الذاكرة تخون أحياناً.
في حديثه الأخير أمام الاجتماع الأمني الموسع في القصر الجمهوري، مع انطلاق الاحتجاجات مجدداً في شوارع لبنان، ليعبّر اللبنانيون عن الشكوى من تدهور أحوالهم المالية وانهيار مستوى عيشهم، فتح عون دفاتر الذكريات. لم يستنتج من تلك الاحتجاجات سوى أنها حملة على عهده لدفعه إلى الاستقالة. قال للحاضرين: أنا لا أتنازل تحت الضغط. اسألوا عني من يعرفونني. وبينكم على هذه الطاولة من يتذكر أنني رفضت التنازل تحت ضغط المدافع التي استهدفت القصر الجمهوري أثناء وجودي على رأس الحكومة العسكرية. وهذا ما يعرفه السفير الفرنسي آنذاك (كان حينها السفير رينيه ألا). واليوم لن أتنازل تحت ضغط التلاعب بأسعار صرف الدولار.
للسفير رينيه ألا رواية مختلفة ذكرها في أكثر من مناسبة عن ذلك اليوم من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1990 وما سبقه من مفاوضات. يروي السفير ألا تفاصيل الاتصال الصعب الذي أجراه عون معه مستنجداً، بعدما بدأت طائرات «السوخوي» السورية هجومها على القصر الجمهوري. قال للسفير: «الهجوم شامل ونهائي وأنا أريد تجنب حمام دم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه». ويضيف ألا: حدثني عون بصوت مخنوق يكاد لا يسمع قائلاً: أعتبر أنني هُزمت.
هكذا هُزم القائد الذي يقول إنه رفض التنازل.
كانت كلفة تلك الهزيمة مرتفعة ليس فقط على عون وأفراد عائلته الذين أمضوا سنوات طويلة في المنفى في ظروف صعبة وفي ظل شروط لجوء فرنسية استثنائية، لكن الكلفة كانت مرتفعة على عناصر الجيش من ضباط وجنود الذين تركهم عون وراءه بعد مغادرته قصر بعبد لاجئاً إلى السفارة الفرنسية. ومثلها كانت الخسائر السياسية والاقتصادية نتيجة الحروب التي خاضها عون، أولاً مع «القوات اللبنانية» بحجة رفض وجود ميليشيات خارج سلطة الشرعية! (تأمل نفوذ «حزب الله» اليوم وهيمنته على سياسة الدولة)، ثم مع القوات السورية في «حرب التحرير»، لينتهي الأمر إلى وصاية سورية مديدة، ثم إلى عودة عون رئيساً حليفاً للنظام السوري ولأعوانه في لبنان.
هزيمة العماد ميشال عون في 13 أكتوبر 1990 قد تكون، رغم فداحتها، بسيطة بالمقارنة مع الفشل الذي يهدد ولايته، والانهيار الذي يهدد لبنان. فالأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها اللبنانيون اليوم لا تقارن بما مروا به في تاريخ بلدهم، وربما لم يعرف لبنان مثلها منذ المجاعة التي عصفت بأبنائه بعد الحرب العالمية الأولى.
لم يقرأ الرئيس اللبناني في الاحتجاجات الشعبية سوى أنها موجهة ضد عهده بهدف إفشاله. هو الذي بقي من ولايته أقل من سنتين بعدما ذهبت الفصول الأطول منها بين صراعات حكومية وحملات سياسية وأزمة اقتصادية خانقة وانفجار شبه نووي في العاصمة، وفوق ذلك خسارة اللبنانيين لمدخراتهم وانهيار قيمة العملة الوطنية إلى مستويات لم تعرفها في أسوأ أيام الحرب الأهلية.
لم يقتصر تعطيل تشكيل الحكومات على الحكومة التي كلف الرئيس سعد الحريري بتشكيلها. فخلال أربع سنوات ونصف انقضت من عمر العهد الحالي، أمضت حكومتان للرئيس سعد الحريري وثالثة للرئيس حسان دياب 457 يوماً (حتى الآن) في تصريف الأعمال، بعد استقالة كل منها والعجز عن تشكيل حكومة جديدة. وأدى ذلك إلى شلل حكومي وتأخير في اتخاذ القرارات الضرورية لتسيير شؤون الدولة، ما نتج عنه تراكم المشاكل وتعقيد التوصل إلى حلول.
ورغم خطورة هذا الوضع، لا يجد الرئيس اللبناني أي حرج في المضي في تعطيل تشكيل الحكومة بذريعة الحفاظ على «حقوق المسيحيين»، وتعيين الوزراء الذين يريد اختيارهم لتمثيلهم، رغم أن حقوق المسيحيين مهددة اليوم كما حقوق سائر اللبنانيين، وسبق أن استبيحت خلال حربي «الإلغاء» و«التحرير»، التي كلفتهم ثمناً باهظاً من أوضاعهم السياسية وخسائرهم البشرية.
وفوق الانهيار المالي والضائقة الاقتصادية أخذت القطاعات الأمنية ترفع الصوت محذرة من المخاطر على الاستقرار بعدما بدأت ملامح الجوع تطرق الأبواب، وبينها أبواب رجال الأمن. وزير الداخلية محمد فهمي يحذر من أن قوات الأمن تُستنزف ولم تعد قادرة على الوفاء بواجباتها بعدما وصلت أوضاعها إلى الحضيض. وسبقه كلام استثنائي في لهجته من قائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي سأل المسؤولين: أتريدون جيشاً أم لا؟ أتريدون مؤسسة قوية صامدة أم لا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ماذا تنوون أن تفعلوا؟ لقد حذرنا أكثر من مرة من خطورة الوضع وإمكان انفجاره.
وعلى الرغم من خطورة هذا الكلام، عمدت الجهات السياسية القريبة من الرئيس عون، والوسائل الإعلامية الموالية له ولـ«حزب الله» إلى شن حملة على قائد الجيش، بدلاً من تفهم مخاطر الضائقة المعيشية التي بات يعاني منها ضباط الجيش وأفراده، كما سائر القوى الأمنية. ومن الاتهامات ضمن الحملة على قائد الجيش أنه يستخدم موقعه لكسب التعاطف الشعبي، والاستعداد لخوض معركة رئاسة الجمهورية. ولا بد أن ذاكرة من هم وراء هذه الحملة قصيرة جداً. فرئيس الحكومة العسكرية التي كلفها الرئيس أمين الجميل في نهاية ولايته، صلاحيات انتقالية محددة والتحضير لانتخابات رئاسية، واستغلت ذلك للسيطرة على كرسي الرئاسة، كان اسمه: العماد ميشال عون.
لم يبق صوت في لبنان أو في الخارج، لم يرتفع احتجاجاً على الوضع المنهار ومطالباً بالإسراع في تشكيل الحكومة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما بقي من لبنان. البطريرك الماروني والمفتي دريان ورجال دين آخرون، وقادة أحزاب ومثقفون ومسؤولون دوليون، كلهم يعتبرون أن الوقت ليس وقت نزاع على حصة حكومية فيما الدمار يهدد الجميع. غير أن الرئيس ميشال عون لا يرى في ذلك سوى مزيد من الضغط عليه ليتنازل… وهو لا يتنازل قبل قدوم طائرات «السوخوي».