ما كاد ينتشر إعلان النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، بتكليف قسم المباحث الجنائية المركزية مباشرة التحقيقات، لمعرفة هوية الأشخاص الذين عمدوا الى نشر تدوينات وصور تطال مقام رئاسة الجمهورية، ويطلب من النيابة العامة التمييزية ملاحقة أصحاب هذه الحسابات عبر مواقع التواصل الإجتماعي، بجرم القدح والذم والتحقير، حتى أتى قراره برد فعل عكسي. فبدأ ناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي تحدي القرار، وكثرت المنشورات الساخرة من قرار عويدات ومن رئيس الجمهورية ميشال عون، في خطوة تهدف للتأكيد على حقهم بحرية التعبير التي لطالما تباهى بها لبنان. وكأنّ عويدات قد عرّض الرّئيس للهجوم في حين أن عون نفسه كان قد أكّد أكثر من مرة رفضه استدعاء ناشطين على خلفية منشور يطاوله.
وكردّ فعل على خطوة عويدات التي استفزّتهم، أطلق ناشطون وسماً ضد رئيس الجمهورية، وغردوا عبر “تويتر” ونشروا المنشورات الساخرة عبر “فايسبوك” في إصرار على كسر إرادة قمعهم. وانتقد ناشطون اصرار القضاء على ملاحقة الناس التي تعبر عن وجعها، في مقابل تقاعسه عن مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين، وكأنه يصر على ملاحقة من يصرخ من الألم بدل ملاحقة المتسبب به.
في حديث إلى “نداء الوطن” يرى المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي لـ”المفكرة القانونية”، أن المسألة ليست مسألة قمع فحسب، بل تعبر عن نظام سياسي يعيد ترميم نفسه بعد أن هزته الثورة، ويعتبر أي إجراء لملاحقة الناس يقع ضمن هذا الاطار. “يظهر القرار مجدداً أين يصب اهتمام مؤسسات الدولة، تفرض احترام المؤسسات العليا بغض النظر عن مسؤولياتها وتهميش كرامة المواطن. فالسياسة نفسها التي تحفظ كرامة الرؤساء لا تهتم مهما حصل مع الناس. فهي لم تلاحق المصارف لكنها تلاحق من يشتكي”.
ووفق صاغية، من المفترض أن تتوسّع حرية التعبير عندما يكون الوضع سيئاً، إذ “لا يمكن الطلب من الضحية أن تبقى صامتة عندما لا تتخذ النيابات العامة إجراءات ضد الفساد”. كذلك يرى المحامي أن على المسؤول أن يتقبل النقد أكثر كلما ازدادت مسؤوليته، بدل ملاحقة المنتقدين وإلا لا يعود لبنان بلداً ديموقراطياً.
ويفسر صاغية تكرار هذه الإجراءات على أنها تأكيد جديد على غياب أية عملية انتقالية، “فالنظام متشبث بالقيم التي بني عليها. والنائب العام التمييزي يمثل النظام، وبذلك يعلمنا النظام أنه متمسك بطبيعته كدولة المقامات”. ويلفت المحامي إلى أن محكمة المطبوعات في بيروت حققت انجازاً بموضوع تناول رئاسة الجمهورية، ويرجع السبب في ذلك إلى وجود هامش من القضاة الذين يتمتعون بالاستقلالية، “سننجح عندما ننتقل من نظام سياسي لنظام مبني على كرامة المواطن”.
أما المدير التنفيذي لمنظمة “سميكس”، محمد نجم، فيصف الإجراء بغير المنطقي، على الرغم من أنه يستند إلى قانون العقوبات “الذي لا يتماشى مع معايير المجتمع الحالية”. يستند نجم الى المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنصّ على أنه “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء من دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”. ويرى نجم أن الفكرة الأساسية لحقوق الإنسان هي أن للناس الحق في الانتقاد والسخرية من أي شخص بموقع المسؤولية. “فمن الطبيعي أن ينتقد الناس أي شخص يضع نفسه في موقع المسؤولية والسلطة، وهي لا تتناوله لأسباب شخصية أو لتحقير مقامه الإجتماعي كفرد. وينتقد نجم ملاحقة الناس، “بينما لا تهتم السلطة إذا انهار الإنسان وسرقت أمواله في بلدٍ ينهار”.
وتعليقاً على قرار عويدات، أصدر مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية “سكايز” (عيون سمير قصير) بياناً، عبّر فيه عن الريبة من “التعميم” الذي يتضمّنه طلب التكليف، وتوقيته وعدم وضوحه، ورأى فيه إمعاناً في المسار الانحداري للحريّات في لبنان، وإيعازاً مرفوضاً ومستنكَراً لتعزيز الرقابة الأمنية على مواقع التواصل الاجتماعي. وذكّر “سكايز” المعنيّين بأن المرجع الصالح للنظر في قضايا النشر كلها هو محكمة المطبوعات، “أما الإساءة الفعلية إلى مقام رئاسة الجمهورية، فهي من خلال الإيحاء بأنها على رأس سلطة قمعية تتماهى مع ممارسات دول الجوار، وهذا أمر أخطر بكثير من أي منشور أو صورة أو تعليق، قد يُكتب على مدوّنة أو صفحة إلكترونية”، وفق “سكايز”.