IMLebanon

القوات والتيار: سباق التمدد في أمراء الكنيسة وفقرائها

 

 

في أيام السلم، يُحمَّل رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل المسؤولية عن كل الأخطاء التي ارتكبها أو لم يرتكبها، من دون حق، رغم كل تجاوزات حلفائه وخصومه. تماماً كما حُمّل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أوزار الحرب، رغم كل ما اقترفه جميع أمراء الحرب من دون استثناء.

 

مفارقة لافتة بين الرجلين اللذين يتواجهان ليس في معركة رئاسة الجمهورية فحسب، بل في اجتذاب جمهور مسيحي، لا يزال رغم كل المصائب المالية والسياسية والاجتماعية، منقسماً بينهما. في هذا السباق، هناك واقع يتعلّق بالشق «الكنسي والرهباني» عادة يجري الكلام عنه بخجل. لكن ثمة ظاهرة في هذا الوسط، تتعلق بتمدد التيار في صفوفه ومؤسساته وإداراته، في مقابل تمدد القوات في الفئات الشبابية في المؤسسات الكنسية والرهبانية، ولا سيما التعليمية منها، إلى جانب الفئات العمالية.

منذ نهاية الثمانينات انحاز إلى العماد ميشال عون جمهور عريض تحت شعار الجيش هو الحل. إرث القوات اللبنانية على حساناته وسيئاته، وطول سنوات الحرب، ساهم في قلب بعض المعادلات الداخلية. حصار آلاف المسيحيين في منطقة واحدة لسنوات، خاضعين لحكم حزبي، لم يكن من السهل تجاوزه، بعدما أتعب الكثيرين منهم، رغم ما قدمته القوات من «حماية بيروت الشرقية» بعدما تعددت هويات خصومها، والخدمات المالية والتجارية عبر المرافئ، وغنى تلك المنطقة بكل ما للكلمة من معنى. أكلت الصراعات من واقع المسيحيين، وجاء عون حاملاً شعاراً جذاباً، فورث الممتعضين من الأحزاب، وبعضاً من حزب الأحرار والشمعونيين، ومن ثم قوات ايلي حبيقة ومناصريه، كما جرى في قضاء بعبدا مثلاً. وورث أيضا جواً رهبانياً، كان بدأ يحاول التخلص من سيطرة البطريرك مارنصرالله بطرس صفير على الحضور الكنسي والرهباني، بعد نفوذ واضح للرهبانية اللبنانية المارونية ورموزها خلال الحرب. فكانت الرهبانية الأنطونية، التي فقدت راهبين في 13 تشرين 1990، خير مثال على هذه العلاقة مع عون ومن ثم مع تياره، علماً أنه لم يُعرف لغيرها ولغير الرهبانية المارونية – الكسليك، تعاطٍ في الشأن السياسي المباشر. ولا تزال علاقة عون بالأنطونية وزيارته السنوية لها في عيد شفيعها القديس انطونيوس في 13 كانون الأول، والعشاء التقليدي مع رهبانها، ترجمة لهذا التاريخ المشترك.

تزامن صعود جعجع وعون مع غياب الرئيس المؤسس للكتائب بيار الجميل والرئيس كميل شمعون، فحاول الطرفان وراثة تركتهما، من دون الأخذ بعبرة حرص شمعون مثلاً على تجاوز جروح كثيرة لمنع الاقتتال الداخلي. جاءت حرب الإلغاء لتكرس التجاذب بين تيارين والكنيسة بينهما، فحدث الانشقاق الكبير بين بكركي والعونيين. بكركي التي وقفت إلى جانب جعجع، لم تقف معه إلا لاعتبارها أنه كان ظلم في الحرب التي شُنت ضده وبعد اتفاق الطائف، وأنه لم يتم التعامل معه كما جرى مع كل رموز الحرب الذين غُفرت خطاياهم. علماً أن جعجع، الذي كُذب عليه في وعود كثير في شأن الطائف، لم يرَ في الاتفاق سوى التخلص من عون، فيما رأى الأخير أنه سيطيح بهما سوياً.

لم تخرج مرحلة 1990 – 2005، عن الانقسام بين القوتين المسيحيتين، وتجاذبهما الجو الكنسي. بعد انتهاء الحرب، وظل صفير الطاغي، ووقوفه إلى جانب قضية العونيين والقواتيين، ولا سيما بعد ملاحقات النظام الأمني اللبناني والسوري، ومنع الفاتيكان الرهبانيات من التعاطي بالشأن السياسي، بقي الطابع الكنسي العام منحازاً إلى القضية الكبرى بعنوان سيادي استقلالي. وهو ما برز أيضاً في 14 شباط و14 آذار، إضافة إلى أن الجو الكنسي في مجلس المطارنة الموارنة كان يمثل أكثرية منسجمة مع خط بكركي. مع عودة عون وجعجع إلى الحياة السياسية، برز عامل إضافي مع وجود باسيل إلى جانب عون، وبدء انحسار حضور شخصيات مسيحية سواء كانت إلى جانب بكركي أو ضدها. نجح باسيل في خرق الجو الرهباني والكنسي. لدى انتهاء زيارة عون التاريخية إلى معراب في 18 كانون الثاني عام 2016 والتي رشّحه فيها جعجع إلى رئاسة الجمهورية، زار عون وباسيل جامعة الروح القدس والتقيا الاباتي العام حينها طنوس نعمة. وفي آب عام 2016 انتخب نعمة الله الهاشم الاباتي الجديد للرهبانية، واستمرت العلاقة بين الطرفين في لقاءات متكررة، كما جرى في خلوة زراعية لتكتل لبنان القوي في دير كفيفان عام 2019 ولتصبح أكثر قوة، لا سيما مع استئجار باسيل أرضاً من الرهبانية لبناء مقر التيار عليها على تلة استراتيجية عند موقع نهر الكلب الأثري. كما أن باسيل باتت له محطة شبه دائمة في دير مار مارون عنايا حيث أقام جعجع مراسم زفافه في عام 1987 حين كانت الرهبانيات، في عز صعود القوات، خزانها الخلفي. المفارقة أن التيار الذي يعتبر نفسه عابراً للطوائف تحول إلى حزب مسيحي، بشعارات مسيحية، وبحضور فاعل في المؤسسات الأبرشية والرهبانية، إذ يجاهر مطارنة علناً بولائهم العوني، وبخصومتهم للقوات، ومنهم من يرشح نفسه لخلافة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي.

في المقابل كانت القوات في العرف «الحزب اليميني المحافظ»، المسيحي بامتياز، لكنها لم تعُد تملك التأثير نفسه في المؤسسات المسيحية من الصف الأول، في مقابل انحياز فئات تصنّف في خانة «اليسار المسيحي» إليها، وتتجذر أكثر في القاعدة الشبابية في المؤسسات الكنسية المدرسية والجامعية وحتى الدينية التي تحقق تقدماً فيها. لكن، لم تعُد كلمة القوات نفسها لدى مجموع المطارنة الذين لا تملك علاقات مباشرة معهم، أو الذين لا يكنّون لها أي ود. كما لم يسجل خلال السنوات الأخيرة، لقاءات ذات فعالية بين جعجع والرهبانيات. ما يقوم به الراعي من تحولات سياسية ظرفية ومزاجية، لا علاقة له بالتوجه السياسي العام للخطاب القواتي. هو مجرد لحظة من لحظات البحث عن دور، لكن من دون مشروع. في حين أن السباق الأساسي لا يزال قائماً بين مشروعين سياسيين، يستظلان المسيح وصليبه، لاستثماره في كسب أمراء الكنيسة وفقرائها.