IMLebanon

صلاحيات عون… وتجريب المجرّب

 

 

في «حرب البيانات» التي تبادلها الرئيسان ميشال عون ونبيه بري، خطر في بال رئيس الجمهورية، أو من ينصّون تلك البيانات الجليلة من القصر الجمهوري في بعبدا، أن يتهموا رئيس مجلس النواب بأنَّه فقد دور «الوسيط»، وصار طرفاً في الأزمة الحكومية، والمقصود طبعاً أنه صار طرفاً إلى جانب الرئيس سعد الحريري، وبالتالي لم يعد له حق التكلم باسم الشعب اللبناني.

أظن أن هذه «التهمة» لم تستوقف كثيرين من المعلقين، مع أنَّها أكثر ما يستحق التوقف عنده بين الاتهامات التي وجهها رئيس الجمهورية لرئيس المجلس النيابي. ذلك أن رجل الدولة الوحيد في لبنان، الذي يطالبه الدستور بأن يكون وسيطاً، لا طرفاً، وأن يتحدث «باسم الشعب اللبناني» هو رئيس الجمهورية نفسه.

لهذا السبب؛ جعله الدستور «رمزاً لوحدة الوطن»، ومنحه حصانة عدم التصويت في مجلس الوزراء، وهي إضافة لصلاحياته ولرمزية تمثيله الذي يجب أن يبقى فوق الخلافات الداخلية، وليست كما يزعم المناصرون الطائفيون لرئيس الجمهورية، انتقاصاً من صلاحياته. ومع أن الرئيس ميشال عون قادم إلى هذا المنصب من رئاسة حزب سياسي، فإنَّ موقعه يفرض عليه أن يتخلى عن رئاسة الحزب. وهو ما اختار عون أن يفعله وأن يسلّم تلك الرئاسة لصهره النائب جبران باسيل، ليؤكد لمن يحب أن يتأكد أنه أصبح فوق الخلافات الحزبية!

الهدف الأساسي الذي كان وراء هذا التعديل الدستوري لصلاحيات رئيس الجمهورية في اتفاق الطائف هو الحفاظ على هذا الموقع المتميز بين الرؤساء الثلاثة، «حَكَماً» في الصراع السياسي الداخلي، و«بيّ الكل» (!) من دون أن يكون مرغماً عند التصويت في مجلس الوزراء على الوقوف إلى جانب فريق سياسي ضد آخر. ومن هنا، المخالفة الدستورية فيما يقدم عليه الرئيس ميشال عون عندما يطالب لنفسه بحق تسمية وزراء في الحكومة؛ لأنَّ تصويت هؤلاء ومواقفهم السياسية ستكون محسوبة على رئيس الجمهورية، وتجعله بالتالي طرفاً في أي خلاف سياسي، بشكل يناقض الدور الذي تفرضه صلاحياته ودوره كرمز لكل اللبنانيين.

ولكن… هل يستطيع ميشال عون أن يكون وسيطاً، لا طرفاً، وأن يبقى فوق النزاعات السياسية والحزبية ممثلاً لمصالح كل اللبنانيين؟ سؤال يبدو طرحه اليوم عبثياً بعدما فات الوقت الآن لحسابات من هذا النوع، ولم يبقَ سوى عام وبضعة أشهر قبل نهاية هذه الولاية.

كانت للعماد عون تجربة سابقة في الحكم عام 1988، كانت كافية لتقدير ما يمكن أن يكون عليه الوضع فيما لو تولى الحكم مرة أخرى، وبصلاحيات دستورية أوسع. وأظن أن من الإنصاف أن يقرّ الذين انتخبوا الرئيس ميشال عون للرئاسة سنة 2016، أن ذلك القرار لم يكن بين أفضل القرارات التي اتخذوها، بحقهم وبحق البلد.

فشخصية الرئيس ميشال عون معروفة برفض التسويات وباعتبار أنصاف الحلول بمثابة هزائم.

رجل لا ينسى، لا «الابراء المستحيل» ولا «حرب الإلغاء»، ولا يقر بفضل أحد، رغم أن أصوات سعد الحريري وسمير جعجع ومؤيديهما هي التي ساهمت في وصوله إلى قصر بعبدا. في ذاكرته البعيدة أن اتفاق الطائف حرمه من رئاسة الجمهورية، وقلّص، حسب تفسيره، صلاحيات الرئيس. وكل ما يفعله اليوم، هو وفريقه، ليس أقل من سلوك انتقامي ضد ذلك الاتفاق، ومحاولة لاستعادة تلك الصلاحيات، بالممارسة والتعطيل، في ظلَّ العجز عن تعديل النص. ويستفيد في ذلك من موقف مضمر لـ«حزب الله» يهدف إلى أبعد مما يريده عون، أي إلى هيمنة كاملة على القرار من خلال إعادة إنتاج سلطة جديدة ودستور جديد، على أساس توازنات مختلفة تأخذ في الاعتبار قوة الحزب العسكرية والسياسية.

جاء العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا المرة الثانية سنة 2016، بعد «إقامة أولى» امتدت من عام 1988 حتى عام 1990، والذين رافقوا مثلنا تلك الفترة يتذكرون محطات صعبة من الطريقة التي أدار بها عون المهمات التي كلفه بها الرئيس أمين الجميل آنذاك، على رأس حكومة عسكرية انتقالية، كانت مهمتها «الوحيدة» التحضير لانتخابات رئاسية.

استعادة تلك الذكريات لها مبرر وحيد: أن الذين شاركوا في انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية كان عليهم أن يدركوا أن الممارسات السابقة قابلة أن تتكرر، وهو ما يحصل اليوم.

استقال ستة من الضباط المسلمين من أعضاء المجلس العسكري الذي كلفه الجميل مهمات الحكومة الانتقالية. لم يشكل ذلك أي حرج للعماد ميشال عون، رئيس المجلس ورئيس تلك الحكومة.

استمر الرجل، الحريص اليوم على «الميثاقية» وعلى التمثيل العادل لكل الطوائف في مؤسسات الدولة، في إدارة أعمال الحكومة، وكأن شيئاً لم يكن. وصار نصف الحكومة التي يرأسها يدير المناطق الشرقية المسيحية، في حين تدير حكومة الرئيس سليم الحص المناطق الأخرى ذات الأكثرية المسلمة، في تقسيم فعلي للبلاد استمر حتى إخراج عون من قصر بعبدا.

وعندما وافق النواب اللبنانيون على التوجه إلى مدينة الطائف لإقرار اتفاق جديد يضع حداً للحرب الأهلية، لم يجد عون أفضل من اتخاذ قرار بحل المجلس النيابي.

خاض عون خلال رئاسته نصف الحكومة العسكرية حربين خاسرتين أقحم فيهما الجيش اللبناني، من دون أي اعتبار للنتائج الكارثية: واحدة ضد «القوات اللبنانية» التي لم تؤيد رغبة عون آنذاك في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، أدت إلى دمار كبير في المناطق الشرقية من بيروت، حيث جرت تلك المعارك، وأخرى ضد القوات السورية انتهت بهزيمة عون وإبعاده إلى المنفى في فرنسا.

كل ذلك حصل قبل أن يعود عون إلى لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، تحت غطاء تفاهم مع القيادة السورية على دوره في المرحلة المقبلة، وفي ظل رضا «حزب الله» عن تلك العودة، الذي تكرس بتفاهم تم التوصل إليه بين الطرفين بعد عام من عودة عون إلى لبنان، وهو التفاهم الذي مهّد لوصوله إلى رئاسة الجمهورية، بعدما فرض الحزب تعطيلاً لعملية انتخاب الرئيس امتد عامين ونصف عام، قبل أن يذعن النواب وينتخبوا عون.

وهكذا، صار مرشح «السيادة والاستقلال» رئيساً للبنان، تحت مظلة سوريا و«حزب الله».

والباقي هو النتائج الكارثية التي يعيشها اللبنانيون اليوم.