Site icon IMLebanon

“حارسٌ لا رئيس”

 

فصل من كتاب فايز قزي “حارس قبر الجمهورية” الصادر عن “دار المشرق”

 

“حارس قبر الجمهورية” هو الكتاب الخامس لفايز قزي الذي كانت له تجارب مستحيلة في السياسة رواها في متنه من علاقاته بالبعث وميشال عفلق إلى اقترابه اللصيق من ميشال عون وصولاً إلى خيبته من سياسة الجنرال الذي اعتقد يوماً أنه يستطيع أن يستعيد الجمهورية فإذا به يكتشف أن عندما صار رئيساً بات حارس قبر الجمهورية وأميناً للتنازلات الكبيرة التي قدمها على مذبح علاقته مع “حزب الله” ونظام ولاية الفقيه منذ وقّع تفاهم 6 شباط مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله. يعيد قزي في كتابه الجديد مرويات قديمة وجديدة وهو ليس الوحيد الذي خاب أمله بالجنرال وعرف حقيقته وندم على أنه كان إلى جانبه في يوم من الأيام. خيبة تراكمت إلى حد كبير حتى تحولت إلى نقمة.

 

1 -عون المرشّح

 

بدايةً لا بدّ من تسجيل خلاصة وجدانية ناشطة تمثّلت في تجاربي السياسية المستحيلة، التي حوّلتها إلى حبرٍ ينضح غضباً. وهذا يرفد الحراك السياسي الوطني، الذي لا بدّ أن ينتفض مثل طائر الفينيق، ويتحوّل إلى ثورةٍ قادرة على اقتلاع ذهنية الفساد السياسي، التي أطبقت على العقول والدروب. ربما تنبعث منها إرادة شعبية، قادرة على تحويل اللبنانيين من رعايا إلى شعب! والساحة اللبنانية من أرضٍ مستباحة للفوضى والفساد، إلى وطن القانون والحق والنزاهة والعدل والمؤسّسات!

 

لقد حَمَّلتُ كتبي السابقة قناعتي بأن لبنان بات منذ مدّة بعيدة بلا رئيس ولا جمهورية، لأنه بلدٌ محتلّ تتحكّم به طبقةٌ من الفاسدين، والمفسدين، والعملاء والمتعاملين، والمتفاهمين، التابعين الصاغرين إلى “حزب الله” وشعاره: “الرأي والمشورة، والقرار والإمرة، والطاعة والولاء لإيران”.

 

كنت أظنّ أن شعار القيادة أقرب إلى قلب ميشال عون من لقب رئيس الجمهورية. فبعد إسقاط تجربة قائد الجيش، ورئيس الوزراء، يُصرّ الجنرال ميشال عون في غالبية إطلالاته الإعلامية، على التذكير بأن طموحه كان “بناء جمهورية لبنانية”. ويتعمّد ترداد ذلك راوياً أنه تبلّغ من القيادة السورية في أوائل آذار 1989 رسالةً مفادها بأنهم يقبلون به رئيساً للجمهورية. فرفض وطالب بالجمهورية أولاً قبل الرئاسة، مصرّاً على تسميتي شاهداً على هذه الواقعة. ويقول: “اسألوا فايز قزّي”، واستمرّ حتى بعد الافتراق الشامل بيننا منذ شباط 2006 يستدعيني للشهادة، رغم أنني أوضحتُ أنها لم تكن سوى وعد كاذب ومفخَّخ، ورويت تفاصيلها في كتابي المعنون “مواطن سابق لوطن مستحيل” الصادر عن دار سائر المشرق.

 

لقد عرفتُ ميشال عون عن كثب، ولم تكن في أدبياته منازل كثيرة ولا مقالات طويلة. كان يعتمد المختصر المفيد، وصاحبَ قناعات مبنية على مقاصد ونوايا الإصلاح والتغيير. وهنا يكمن سرّ قوّته والرهبة التي كانت تقلق حلفاءه قبل خصومه، خصوصاً إذا لم يتفاعل الحلفاء مع قناعات الجنرال المولودة أو الموعودة.

 

لكن هذا التزاوج بين الجنرال “القائد المتمرّد” والرئيس المتهافت شكّل خطراً كبيراً على الجمهورية، وتحديداً على المعادلة المركّبة وشبه المستحيلة بين قائد لمعركة التحرير ورئيس متهافت على إرضاء النواب الناخبين.

 

لذلك فإنني أستكمل في هذا الكتاب حقيقة ولدت من قناعتي أن “الجنرال السابق” الذي رُفّع إلى الرئاسة، دَفنَ حلم الجمهورية، حتى قبل أن يكون مجرّد وكيل للمحتلّ، ويتحالف مع مغتصبيها. فاستحق عضوية الانتساب إلى قافلة الوعد الصادق للعودة إلى جنّة بعبدا ليبيع روح شعبه الذي سمّاه عظيماً، إلى ذئاب وشياطين جهنّم.

 

الفرصة الأولى: الرئاسة حق سلبه مؤتمر الدوحة

 

بعد عودته المشروطة من باريس متفاهماً مع السوريين الذين أضافوا بعد استشهاد الحريري إلى الاتّفاق مع عون شرطَين: الأول دعم إميل لحّود حتى نهاية ولايته والثاني الدخول في تفاهمٍ مع “حزب الله”. وقد افتتح عون عودته بخطابٍ في ساحة الشهداء-بيروت هاجم فيه الإقطاعَين السياسي والمالي. وسرعان ما اعتبر أنه ركب قطار الرئاسة الأسرع بقوّة 70% من أصوات بيئته المسيحية في انتخابات 2005.

 

لكن انحياز تيّار الحريري إلى تأييد قائد الجيش ميشال سليمان وموافقة “حزب الله” على ذلك، خطفا منه حق الملكية برئاسة الجمهورية في الدوحة ليبقى تفاهم مار مخايل 2006 وعداً ناقصاً من الرئاسة. وليتخلّف إميل لحّود عن نصرة عون العائد من فرنسا متمسّكاً ببقائه في الرئاسة حتى نهاية عهده. سقط أمل الجنرال عون في أن يحقّق حلمه بعد انتهاء ولاية إميل لحّود كرئيسٍ وفُجعَ بفقدان هذه الفرصة في مؤتمر الدوحة سنة 2008 الذي قدّم الجنرال ميشال سليمان عليه.

 

الفرصة الثانية

 

خرج ميشال سليمان في آخر ولايته 2014 من بعبدا تاركاً بياناً معلّقاً في غرفة الاستقلال بانتظار عودة رئيس آخر.

 

شكّل هذا الأمر اندفاعة جديدة لتحقيق رغبة الجنرال عون، فبات متسرّعاً لترجمة فوزه في سبق الرئاسة الذي يعتبره حقاً دائماً بعد أن عيّنه أمين الجميّل قائداً للجيش، واستغلّ وصف البطريرك نصر الله صفير له وحصوله على نسبة 70% من أصوات المسيحيين في انتخابات سنة 2005، ليستعمل هذه الشرعية الشعبية الانتخابية لاحقاً لتغطية تزوير المسيرة الانتخابية وعيوبها القانونية الشكلية والأساسية.

 

في الشكل تحوّل مسرح “الانتخابات” الرئاسية مسرحاً تنافس عليه في البداية مرشّحان: جعجع وعون.

 

ولم يوفّر ميشال عون وفريقه الحزبي وحلفاؤه الأساسيون، مناوراتهم لتعطيل الانتخابات واستمرار فراغ وشغور منصب الرئاسة، طالما لم يكن الفوز مضموناً.

 

فاعتمد “حزب الله” على ضمِّ اسم مرشّحه، ليفسح المجال لتنافس حلفائه على تقديم العروض والتنازلات. ويستعمل ورقة هذا التنافس ليعطّل النصاب القانوني لانعقاد جلسات الانتخاب.

 

أرنب برّي دستوري: نصاب الانتخاب يساوي نصاب الانعقادانضمّ رئيس المجلس النيابي إلى مشروع تعطيل الانتخاب خدمةً لمشروع الفراغ، إذ بعد انعقاد الجلسة الأولى واكتمال نصاب الثلثَين وعدم فوز أي مرشّح، رفع الجلسة فوراً إثر انسحاب فريق التعطيل، وفقدان نصاب الثلثَين الذي أصرَّ برّي على توافره، لكي يستمر بالجلسة، فأسقط بدعته هذه انتخاب الرئيس شرعياً وفقاً للأكثرية. واستمرّ برّي مصرّاً على ضرورة توفّر نصاب الثلثَين للانعقاد في جميع الجلسات اللاحقة. فسقطت المادة المسهّلة للانتخاب لتحلّ محلّها استحالة توفّر النصاب لمجرّد غياب الثلث تطبيقاً لبدعة الثلث المعطِّل، التي كانت الحشرة البَرّية التي صَحَّرت المجلس والوزارة طيلة “العهد القوي”. ولاقت حجّة المعطّلين قبولاً لدى المرشّح ميشال عون فاستغلّها لممارسة مناوراته وضغوطه على المرشّحين المحتملين الآخرين.

 

ساهم عون بدورٍ فعّال في تعطيل الدستور نصّاً وروحاً ليصل إلى الرئاسة معطوباً بالنصّ الدستوري ونظام المجلس النيابي، إذ لو أراد المشترع ضرورة توفير الثلثَين لانعقاد الجلسة المخصّصة لانتخاب الرئيس، لكان نصّ على هذا الاستثناء صراحةً وقال: “استثناءً يعتبر النصاب محقّقاً بحضور الأكثرية المطلقة، باستثناء انعقاد جلسة انتخاب الرئيس”، ولكنه لم يفعل. وبالتالي يجب تطبيق النصّ الخاص باكتمال النصاب العام للمجلس. هكذا “تعتبر” جلسة النصاب مكتملة حتى بالأكثرية المطلقة فقط. وتجرى دورة انتخابية أولى، فإن لم تؤدِّ فعلياً لفوز مرشّح بالدورة الأولى لعدم نيله الثلثَين، تجرى الدورة الثانية، لأن نصاب الانعقاد مكتمل، وينجح من يحصل على العدد الأكبر للأصوات. ولكن الاجتهاد الذي فرضه برّي كشف نيّة تعطيل النصاب الذي استمرّ سنتَين، وأدّى إلى استحالة تطبيق الدستور وانتخاب رئيسٍ للجمهورية، وتكرّس نجاح مشروع الفراغ المضمون من “حزب الله”. كان هذا الاجتهاد الهجين للدستور، فرصةً لميشال عون في التعطيل، ليرفد مشروع حليفه “حزب الله” بإسقاط المؤسّسة الشرعية للدولة. فاستغلّه عون بممارسة التهويل بأصوات نوابه، ومحاصرة السياسيين الرافضين، بطرح شرط تفجيري: “عون أو الفراغ”. وهذا ما بدأ يتفاعل ليؤدّي إلى تساقط القوى المعارضة، وليغتصب عون المرشّح رئاسة مخالفة للدستور والقانون وروح الديموقراطية الانتخابية.

 

مجلسٌ غير شرعي يعيّن لا ينتخب

 

كانت خاتمة المناورة وبداية الذلّ والهوان والاستسلام، فرحّب الجميع –وبعضهم قسراً- ولكن من دون التنبّه لتخلّي السياسيين اللبنانيين عن مبدأ الانتخاب الديموقراطي الحرّ، وخضوعهم لتسمية رئيس متحالف يزداد خضوعاً لولي الأمر الإيراني. وأعاد الجنرال عون معادلته القديمة والدائمة: “هناك كرسي فارغ، إما أن يعزموني عليه، وإما أن آخذه بالقوّة”.

 

كانت هذه الفترة الغامضة في موقف “حزب الله”، والتزامه بمرشّحٍ للرئاسة، طويلة جدّاً، وفرضت على عون وأتباعه اللجوء إلى مناورات قانونية وسياسية، لم تقتصر على رفض المغامرة بقبول تجارب غير مضمونة النتائج التي تضمّ التصويت بالأكثرية، فعمدوا بالانفراد أو الاتّحاد إلى تكريس شعارات تساعد عون على صعود سلّم الرئاسة متدرّجاً في المواقف التنازلية.

 

وفي محاولة لدعم الفراغ، سرّبت قوى التعطيل وعبر ميشال عون، واقعة عدم شرعية النواب، فرُفع شعارٌ يقول إن المجلس غير شرعي لأنه مدّد لنفسه خلافاً للنصّ، ويجب اللجوء إلى الانتخابات المباشرة من الشعب. وأضاف عون أن الفراغ أفضل من قانون الستّين. كما رفده مشروع التعطيل ببعض البدع. مرّة ببدعة الغياب غير الشرعي لجلسات عدّة متتالية، خلافاً لنظام المجلس النيابي الداخلي الذي يسمح بالغياب عن جلستَين متتاليتَين وإنما بعذرٍ شرعي، بعدها يصبح النائب مسؤولًا. ولم يبخل رئيس المجلس النيابي عليهم بفتوى واجتهاد تعطيل النصاب برفعه إلى الثلثَين وقبول الغياب من دون عذرٍ شرعي لأكثر من جلستَين متتاليتَين.

 

فكرّس الغياب عن جلسةٍ، ولو كانت لانتخاب رئيس لملء الفراغ في رئاسة الجمهورية، وكأنه عرفٌ وشرعٌ ودستورٌ عرفناه في خطابات بعض الانقلابات العسكرية، حيث يصبح كلام أو خطاب أو كتاب رئيس مجلس قيادة الثورة بمثابة الدستور. واستمرّ هذا الغموض المشبوه في موقف “حزب الله” فترة طويلة مخفية وغير معلنة. تخلّلته فترة من فراغ عميق وتعطيل للمؤسّسات وما رافقها من انهيارات إدارية واقتصادية ومالية مقصودة ومتعمّدة. راكمت انحلال وانحدار لبنان، إلى أن بدأت، حصون أعداء الجنرال المرشّحين، تتهاوى أمام استمرار الفراغ وأعبائه الكارثية.