IMLebanon

حارس القصر

 

أضاف إنفجار أحد معاقل لصوص المشتقات النفطية ومهربيها في قرية التليل قرينة إجرامية إلى سجل الإفقار المتعمّد بحق عكار والظلم المتمادي والتاريخي بحق أبنائها. الجثث المتفحمة والأشلاء المتناثرة في مسرح الجريمة المرشّحة للتكرار في أي منطقة حدودية أو سكنية، لم تحرّر المجتمعين في المجلس الأعلى للدفاع من رهابهم لوضع حدّ لهذا التحلّل الذي بلغته الدولة باستنفار القضاء والأجهزة الامنية للقيام بالمداهمات ومصادرة المشتقات النفطية المسروقة وإقرار آليّة الإستفادة منها بما يُعيد الحياة إلى بعض القطاعات المتعلّقة بحياة المواطنين اليومية. نجاح الجيش في مصادرة بعض المخازن وإلزامه العديد من المحطات ببيّع المشتقات ساهم في تجنّب إنفجار شعبي وشيك، قابله إخفاق في مصادرة كميات كبيرة منها لدى متنفذين ينتمون للتحالف الحاكم، مما يثبت أنَّ الإمعان في سرقة أموال اللبنانيين هو سِمة المرحلة المواكبة لمرحلة ما قبل الإنفجار.

 

لاقت الجريمة في عكار، التي تسبّب بها غياب الدولة وخضوع أصحاب القرار فيها لسلطان التهريب، جريمة المرفأ التي سبقتها بعام واحد. في تفجير المرفأ سقط لبنانيون مكافحون كانوا يحاولون مزاولة حياتهم اليومية، وبعث الحياة في بيروت بالرغم من إمعان السلطة بتدمير المدينة، بعد أن شيطنت ثورتها واعتدت على خطابها ودسّت في صفوفها كلّ صنوف قطّاع الطرق. وفي انفجار عكار سقط مواطنون يحملون قوارير متواضعة للحصول على حاجاتهم الملحّة من البنزين التي آثر مغتصبو السلطة وأسيّادهم سرقتها ونقلها عبر شبكات عابرة للسيادة وللمصلحة الوطنية العليا.

 

الإنحدار المتسارع الذي يقدّمه العهد على الصُعد كافة يظلّله إمعان دائم في الكذب ووقاحة في الإبتزاز عصيّة على الوصف. قد تكون المحاولات الشكليّة لتأليف حكومة جديرة هي النمط المعتمد للنفاق السياسي وتمرير الوقت لبلوغ لحظة التأزّم وبعدها الإنفجار، الذي يحاول كلّ فريق توقيته وضبط إيقاعه بما يتناسب مع أجندة إقليمية تمّ احتساب دقائقها. وما الشراهة في سلب المال العام ومدّخرات اللبنانيين واحتياطي مصرف لبنان وتوسيع شبكات الإقتصاد الموازي وإسقاط مفهوم القانون ومنطق النظام العام سوى دلائل أنّ طموحات اللاعبين المحليين أصبحت عصيّة على الاستيعاب والإنضباط في الوعاء الدستوري اللبناني وفي معادلة الأحجام السارية المفعول.

 

يتوقف سقوط الواقع اللبناني في فوضى عارمة، على سقوط الأجهزة الأمنية جرياً على كلّ تجارب انفراط الدولة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي. كانت الهشاشة السياسية فيما مضى والإصرار على احتكار السلطة وخيرات الدولة هما المحرك الأساس للتعبئة وهما مؤشرا انسداد الأفق في الوقت عينه، وكان انفراط المؤسسات وتوزّعها ورسم خطوط التماس الأمنية وحدود مناطق النفوذ الإقتصادي الرعوي بين الفرقاء الطامحين للتغيير رهن إشارة سقوط الإستقرار وانقسام أجهزة الأمن وقوى فرض النظام. في التجارب السابقة كان الصراع على الداخل يتمسّك بالحدود الجغرافية القائمة كإطار معترف به لحدود الصراع، وبكلمة أدق كانت الساحة اللبنانية هي النموذج في الإقدام وادّعاء القدرة على التمرّد على الأمر الواقع، وكان الإقليم برمّته لا يمتلك سوى إمكانية المراقبة دون أي قدرة على التغيير.

 

في مخاطر التجربة الحالية، نجحت المغريات الإقليمية وميزان القوى القائم والقدرة على التعبئة في تحويل القوى المحلية إلى أدوات لا تمتلك أي تأثير في مجريات الأمور. لقد أدى دخول العامل المذهبي في الصراع إلى إسقاط إحدى أهم نقاط القوة للمجتمع اللبناني، وهي الجدلية السياسية المرتكزة على التنوّع والتراكم الذي أسّست له القوى الديمقراطية باتّجاه الذهاب نحو دولة مدنية ديمقراطية، دولة يسودها القانون وعمل المؤسسات. في لبنان لا تبدو حظوظ استعادة المؤسسات لدورها متوفرة في ظلّ قناعة المكوّنات السياسية بضيق الكيان على طموحاتها. وما تفاقم الحاجات المناطقية الأساسية واستمرار الدولة في التلكؤ وتفاقم الحوادث الأمنية التي تتصاعد وتيرتها إلا نذير للذهاب نحو إحياء الإدارات المحلية وإعلان هشاشة المؤسسات الأمنية لاحقاً. لقد جرفت الرياح الأصولية التي كرّسها الغرب وأجهزته الأمنية كلّ التراكمات الإيجابية للتجربة السياسية اللبنانية، واضعةً قواعدها الجديدة المستندة إلى توفير ظروف المواجهة الكبرى بين الولاءات البدائية والأصوليات المتجذرة حيث لا مكان للتنوّع والحداثة والأيديولوجيا التي يدفع حاملوها دائماً الضريبة الكبرى.

 

سقوط الدولة الأفغانية بيد حركة طالبان هو إعادة لعقارب الروزنامة الإقليمية إلى ما قبل العام 2001 وبداية لمرحلة جديدة من الصراع المذهبي المفتوح، حيث تحقق القوى الغربية مصالحها الإقتصادية والسياسية بواسطة وكلائها «أصحاب العمامات» هذه المرة. لقد كان لطالبان إقتصادها المستقل ودورها على حدودها الشمالية مع أوزبكستان ومع إيران في الغرب، حيث أقامت أوسع المناطق الإقتصادية بالشراكة مع الولايات المتّحدة ورموز إدارة الرئيس جورج بوش، بالإضافة إلى علاقاتها التقليدية مع باكستان من الشرق، بالرغم من وجود دولة مركزية في كابول.

 

أطبق إقتصاد طالبان وميليشياتها على الدولة الهشة ليكتشف العالم ومعه الأفغانيون أنّ سقوط كابول بيد طالبان لم يستغرق سوى أيام قليلة، وأنّ الرئيس الأفغاني أشرف غني لم يكن سوى حارس القصر.

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات