Site icon IMLebanon

بناء السلم بعد النزاع (3)

 

علينا أن نقيم حكومة مقاومة في المنفى ضدّ هذا الإحتلال… الجبهة السيادية حاجة لبقاء لبنان وليست لربح الإنتخابات النيابيّة القادمة فقط

شكّل التواطؤ البريطاني الفرنسي لتقسيم بلاد الشام بعد الحرب العالميّة الأولى، وجهاً آخر من وجوه الحروب الصليبية. فقد أشارت التقارير المتّصلة بهذه الحرب إلى تعليقات للجنرال اللنبي وإلى بيانات في الإعلام البريطاني والأوروبي والأميركي، يحتفلون فيها بسقوط القدس، ويربطون سقوطها بـ”الإنتقام من صلاح الدين الأيوبي”. فالجنرال اللنبي قال عندما دخل القدس: “ألآن تنتهي الحروب الصليبية”. وصدرت صحيفة نيويورك هيرالد الأميركية مثلاً بتاريخ 11 كانون الأول 1917، وهي تحمل على صفحتها الأولى عنواناً: “القوات البريطانية تنقذ أورشليم بعد 673 سنة من حكم المسلمين”. وأنا من المقتنعين أنّ على مؤرّخي أحداث المنطقة بعد تلك الحرب، أن يعيدوا من خلال هذه الرؤية قراءة الأحداث، وخاصّة في ما يتّصل بإنشاء دولة إسرائيل في فلسطين، وإعلان دولة لبنان الكبير. ألإعتبارات الحديثة لا يجب أن تنسينا التاريخ. لكن علينا الإستفادة من التاريخ مع إستخدام الإعتبارات الحديثة، لا أن نعود إلى تقليد أحداثه.

 

فعلى الرغم من كلّ الأهداف الإقتصادية للإستعمارَين الفرنسي والبريطاني في الأراضي العثمانية والذي كان يُفترض أن يضم أيضاً روسيا القيصرية في حينه، الشريكة لهما في إتفاق سايكس بيكو المشؤوم لعام 1916، إلا أنّ طريقة تقسيم بلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى، إتّسمت بأبعاد دينية. فروسيا القيصرية كانت تهتمّ بالمناطق ذات النفوذ المسيحي الأرثوذوكسي. وكانت بريطانيا مهتمّة بإقامة دولة لليهود في فلسطين وفقاً لوعد بلفور عام 1917. أمّا فرنسا فكانت لها أطماع قديمة في سوريا منذ عام 1860، حيث كانت ترى أنّ “مكوّنات هذه البلاد غير متمازجة مع بعضها البعض”. لهذا عملت على تقسيمٍ للمنطقة يعطي مكوّناتها هويّة وطنية خاصة.

 

إستفادت هذه الدول الإستعمارية، من تاريخ الصراعات الدينية فيها، لتنقله إلى مناطق نفوذها الإستعماري. فأوروبا شهدت حروباً دينية تدميريّة، بعد بدء الإصلاح البروتستانتي عام 1517، إستمرّت حتى عام 1710. وكانت حرب الثلاثين سنة التي دمّرت ألمانيا، وقتلت ثلث سكانها، من أفظعها. لكنّ أوروبا نحت بعد ذلك نحو الحداثة، وزادت القرارات التي تحمي حقوق الإنسان. فالثورة الفرنسية التي انطلقت عام 1789، أقرّت في فرنسا ذلك العام، إعلان حقوق الإنسان والمواطن، مستَوحية أفكاراً ليبرالية وراديكالية. كما أنّ بريطانيا التي تملك تراثاً في حقوق الإنسان من بين الأطول إمتداداً في العالم، شهدت منذ عام 1689 حركة فلسفة تقول بأنّ حقوق الإنسان ليست حقوقاً بصفتها إمتيازات تمنحها الحكومة أو القانون، وإنّما بصفتها جزءاً أساسياً ممّا يعنيه أن تكون إنساناً. ولكن وعلى الرغم من ذلك، فقد حمل الاستعماران الفرنسي والبريطاني اللذان امتدّا من البحر الكاريبي، إلى الشّرق الأوسط، إلى أفريقيا، فآسيا، سياسات بشعة تناقض تناقضاً صارخاً كلّ ما جيء به في إعلانات حقوق الإنسان لديهما، وذلك من خلال الحروب الدينية والقبَلية بين سكّان الدول التي خضعت لاستعمارهما. وعليه، سيكون من الضّروري إعادة قراءة أحداث هذه المنطقة، ليس فقط من جهة البواعث الإقتصادية للإستعمار، بل أيضاً من منطلق الوسائل التي استخدمها من أجل ترسيخ استعماره.

 

خلال الحرب العالميّة الثانيّة قامت ألمانيا باحتلال جمهورية فرنسا العظيمة التي يحكمها حالياً الرئيس إمانويل ماكرون. وعلى الأثر، نشأت حكومة موالية للإحتلال، أُطلق عليها لقب حكومة فيشي، نظراً لأنّ اتّفاقيّة الهدنة التي وقّعتها فرنسا الخاسرة مع ألمانيا، تمّت في مدينة فيشي السياحية التي تحوّلت في حينه إلى عاصمة للبلاد. كما نشأت أيضاً، مقاومة لهذا الإحتلال قادها الجنرال شارل ديغول الذي ترأّس حكومة حرّة في لندن تتابع توجه نضال المقاومين على الأرض. وأمكنها بالتعاون مع الحلفاء، من تحرير فرنسا، حيث انتُخب ديغول أوّل رئيس للجمهورية الخامسة. وقد قاد الرئيس ديغول بلاده لتتحوّل إلى دولة عظمى في العالم، تحتلّ مقعداً دائماً في مجلس الأمن.

 

في لبنان، خرج أيضاً من ادّعى أنّه ديغول آخر، يريد مقاومة الإحتلال السوري له، لا سيما بعد سقوط التسلّط الفلسطيني على البلاد وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان في أعقاب حرب 1982 وحروب المخيمات بين عامي 1985 و1988. ديغول لبنان أي الجنرال ميشال عون، أقنع كثيرين من أبناء شعبنا بنبل مسعاه، بما في ذلك الدكتور سمير جعجع الذي دعم حربه ضد الجيش السوري. لكن الجنرال إعتبر أن تأييد البطريرك صفير والدكتور جعجع لإتفاق الطائف هو خيانة وطنية، بحجّة أنّه “لم يتناول الإنسحاب السوري من الأراضي اللبنانية”. قاده ذلك إلى حرب طاحنة ضدّ القوّات اللبنانيّة تحت عنوان حرب الإلغاء. كما قاده إلى مواقف مسيئة لغبطة البطريرك صفير. الجنرال عون أعلن إستسلامه للسوريين بعد أن هرب من قصر الرئاسة، لاجئاً إلى سفارة فرنسا أولاً ثمّ إلى باريس الجميلة لاحقاً. فيما ظلّ الدكتور جعجع والبطريرك صفير في لبنان. ورغم أنّ جعجع وغبطة البطريرك قبلا باتفاق الطائف، إلا أنّهما لم يقبلا الممارسات السورية التي بدلاً من تطبيق اتّفاق الطائف، أوقفت تطبيقه عام 1992، وتحوّلت إلى قوّة إحتلال فعليّة في البلاد. رفض جعجع توزيره والإنضمام إلى جوقة أمراء الحرب في تقاسم جبنة السلطة. هو لم يهرب من لبنان، بل دخل إلى السجن بعد أن أدانه القضاء اللبناني المحكوم سوريّاً، بتهم اغتيال سياسيين بينهم الرئيس الراحل رشيد كرامي. جعجع لم يستفد أمام هذا القضاء من قانون العفو العام عن جرائم الحرب الأهلية الذي صدر في آذار 1991، أي بعد عامين من توقيع اتّفاق الطائف. جعجع عاش وحيداً في زنزانته مدّة 12 سنة لا تزوره إلا زوجته، فيما باقي أمراء الحرب كانوا يتمتعون بنعمة السلطة وثرواتها، برعاية والي سوريا المقيم في عنجر.

 

وفيما كان الدكتور جعجع يقبع في زنزانة الإحتلال طوال تلك السنوات، كان ديغول لبنان يتنزّه في شوارع الشانزليزيه، ويستصرخ اللبنانيين الطيبين الذين خدعهم بشعاره “يا شعب لبنان العظيم”، فركضوا كما يقول صديقي جان كلود حمصي، يلصقون صوره أينما كان، مع عبارة “عون راجع”، تحدّياً “للإحتلال” السوري وحلفائه. كما راحوا يرمون قنابل يدوية على الحواجز السورية، ولا يتركون مناسبة من دون الإساءة إلى البطريرك صفير. وفيما كان “المقاومون العونيون” يعانون الأمرّين ويتنقلون من فرع أمنيّ إلى آخر (من قصر نورا، للوزارة، لمخابرات الزلقا، للأمن العسكري، وصولاً إلى المخابرات السورية في المونتي فردي)، كان جنرال لبنان يتواصل مع السوريين سراً، لترتيب عودته الى لبنان. الجنرال شارل ديغول عاد إلى بلاده من لندن مظفّراً. أما الجنرال عون فقد عاد من فرنسا الديغولية ليكون الماريشال بيتّان، ويحوّل لبنان إلى دولة خاضعة للإحتلال، ويقيم عليها حكومات فيشي المتتالية.

 

كما يتّضح أعلاه، فإنّ مشكلة لبنان هي أنّ الدول الديموقراطية الحرّة أرادت فرنسا حرّة، فساعدت ديغول على تحرير وطنه. أما في لبنان فقد أرادت الدول الديموقراطية، وبينها فرنسا العظيمة، أن يبقى لبنان تحت الإحتلال كرمى لعيون إسرائيل. فأعادت عون إليه ليكرّس هذا الأمر. في فرنسا وقفت بريطانيا الأنكلوسكسونية إلى جانب فرنسا الكاثوليكية من أجل تحرير أوروبا من النازية. بينما في لبنان فقد وقفت فرنسا الكاثوليكية إلى جانب بريطانيا والولايات المتّحدة الأنكلوسكسونيتين لإخضاع العرب ومنهم لبنان، إلى الهيمنة الصهيونية.

 

ألإستعمار هو ذاته منذ عام 1916. عاد ينضمّ إليهم الآن قيصر روسيا الجديد. المنطقة لا تُحكم ولا تستمرّ تحت الحذاء الإستعماري، إلاّ باستخدام السلاح الديني ذاته. أوروبا تخلّصت من عبء الإرث العلماني الذي تركه أتاتورك في تركيا، واندفاعته مع خلفائه نحو الإنضمام إلى أوروبا، بإعادة حكم الإخوان المسلمين فيها، ودغدغة مشاعر قادته بالخلافة العثمانية. أوروبا ذاتها خلعت صديقها الشاه في إيران، وجاءت بالخميني، لينشر ثورته في البلدان المجاورة بعد أن دغدغت مشاعره بالإمبراطورية الفارسية. أوروبا ذاتها أطلقت ما أسمته خداعاً “الربيع العربي” بغية إقامة فوضى تتيح لها تقسيماً دينياً للمنطقة.

 

الحرس القديم لما كان يُسمّى بالحركة الوطنية، رفع وما زال شعارات مناهضة للنظام الطائفي، لكنّه غرق قبل كل شيء بشعاراته القومية (العربية أو السورية). كان يناهض أولاً المارونية السياسية وانخرط مع المقاومة الفلسطينية. خرجت هذه المقاومة فانخرط مع الجيش السوري الذي جاء بالشيعيّة السياسية والمحاصصة الطائفيّة السياسية بين كلّ الطوائف. خرج هذا الجيش فانضمّ إلى وليّ الفقيه الذي يسعى إلى إقامة الدّولة الإسلامية. ما زال لا يفقه ولا يريد أن يفهم أنّ الطائفية ليست من ثقافتنا، بل هي لعبة الإستعمار والإحتلال سواء كان غربياً، أو عربياً سورياً، أو تركياً إخوانياً، أو فارسياً شيعياً. ألإستعمار بدّل طريقة نظام الحياة فيه، فأقام اللغة الحضارية أساساً لأنظمة الحكم بين شعوبه، أما في مستعمراته ومنها لبنان، فقد كرّس سياسة التفريق الإيديولوجي والديني. فبالتفرقة يسيطر على بلداننا، ينهب ثرواتنا ويزيد من تمزيق أوطاننا.

 

هذه القراءة تفسّر أسباب مغادرة الولايات المتّحدة لأفغانستان وتركها بين أيدي طالبان. فطالبان ليست أكثر تشدّداً من ولاية الفقيه في إيران. كما أنّها تفسّر أسباب شهرة قراءة صامويل هنتنغتون بشأن صراع الحضارات، وتفسّر إعلان المؤتمر الصهيوني في بيونس أيريس عام 2012، بأنّ “عدوّ اليهود الجديد لم يعد النازية، وإنّما العرب والمسلمين”. وكلّ ذلك يجعلني أعود إلى لبنان لأقول أنّ موقف الجنرال عون لا يشكّل خيانة وطنية وفقاً للدستور فحسب، وإنّما وقبل كل شيء، خيانة للمسيحيين فيه. فالجنرال عون أقنع الغرب أنّ المسيحيين في لبنان يؤيّدون حزب إيران الذي يعتبره هذا الغرب، حزباً إرهابياً. الجنرال عون خدم الإستعمار الفرنسي والبريطاني وغيره من خلال نزع القيمة المميّزة للبنان أمام شعوبهم الحضارية، كما نزع عن مسيحيّي لبنان تاريخهم النّضالي السيادي الطويل، وقتل مفهوم الميثاقية التي جعلت لبنان بلداً مستقلاً وجسراً حضارياً بين الشرق والغرب. هو جعل لبنان جاهزاً ليكون الفريسة المقبلة. هو نموذج آخر لديكتاتوريّي سوريا والعراق اللذين رفعا شعارات العلمنة، ومارسا أبشع أنواع إنتهاكات حقوق الإنسان ضدّ شعبيهما. فقد نقل الإستعمار ممارساتهما إلى شعوبه، فكرهونا. ولكنّه قدّم لهما أيضاً في آن معاً، الحماية الصامتة في بلديهما ضد أي عقوبات يمكن اتخاذها ضدهما وذلك إلى أن حانت فرصة الإنقضاض عليهما. عون يحظى الآن بدعم هذا الإستعمار إلى أن يحين موعد الإنقضاض على لبنان.

 

على اللبنانيين بشكل عام، والمسيحيين بشكل خاص، أن يقرأوا بدقّة كلام غبطة البطريرك الراعي مؤخّراً، حيث حذّر من “مخطّط يهدف إلى تغيير كيان لبنان ونظامه وهويّته وصيغته وتقاليده”. وإذا كان ما زال بين المسيحيين من ينظر إلى فرنسا نظرة الأم الحنون، عليهم فضح موقف الرئيس ماكرون في وطنه. ماكرون الإستعماري تسعده ممارسات عون والميكيافيلي. نعم، لبنان يواجه مخطّطاً لتغيير كيانه، والمسيحيون هم العائق الأكبر أمام ذلك. لقد كان المسيحيون السياديّون العائق أمام البواخر الأميركية التي كانت تنتظر قريباً من الشواطئ اللبنانية خلال الحرب الأهلية عام 1976، لنقلهم إلى بلدان العالم المسيحي الحر. وهناك الآن من ينتظرهم بسرور للهجرة ببطاقات سفر مدفوعة من جيوبهم، تحت ضغط الجوع والعتمة والإذلال أمام المحطات وفي المصارف والمستشفيات والجامعات والمدارس.

 

آن لنا أن نفهم أن لا سلام في لبنان بدون سيادة واستقلال وحرّية. آن لنا أن نخرج من عباءة الطوائف، وأن نفهم أننا سنخسر أولادنا وسيكون مصيرنا التشتّت وتسليم بيوتنا للغرباء، إذا لم نستعد سيادتنا. علينا أن نقيم حكومة مقاومة في المنفى ضدّ هذا الإحتلال. ليس مهماً أن نحظى بدعم هذه الدولة الإستعمارية أو تلك، لنقوم بذلك. يكفي أن تحظى هذه الحكومة برضى القيادات الروحية المسيحية والإسلامية الحرّة، لكي تحظى برضى ودعم عشرات الدول الحضارية. وعلى أن يكون برنامجها واضحاً ومستنداً إلى ما أعلنه غبطة البطريرك مراراً. كما يقوم على الحقوق المشروعة للبنان وشعبه، والتي يضمنها لنا ميثاق الأمم المتّحدة والقانون الدولي. هكذا يصل لبنان السيادي الخاضع للإحتلال المقنع إلى الأمم المتّحدة وإلى كلّ الحكومات الدولية النبيلة في العالم. ويتيح لوزرائه التنقل في هذه الدول لشرح معاناتنا مستفيدين من الإنتشار اللبناني لهذا الغرض.

 

آن للسياديين في لبنان أن يتركوا الوزارات والإدارات العامّة التي لا يخدمون فيها سوى الإحتلال الإيراني والمستعمر الذي يدفع به. ترى من سيقوم على رعاية الإنتخابات القادمة، إذا امتنع اللبنانيون الأحرار عن القيام بمهام الوزارات الخاضعة للإحتلال؟ من سيقدّم الغطاء لأعمال التزوير من أجل الحفاظ على هذه السلطة ؟ هذه الخطوات أكثر من ضرورية لمواجهة هذه الحكومة الفيشية الجديدة.