بالفعل ان آخر شخص في لبنان يسمح له أن يتحدث عن القضاء هو فخامته، لسبب بسيط هو أنّ المجلس الأعلى للقضاء استمر زهاء شهر ونصف الشهر، لِيُخْرِج الاتفاق على لائحة من 330 قاضياً تمت مناقلتهم، وذلك من أصل 520 قاضياً إضافة الى الدورة المتخرجة حديثاً، والتي يناهز عدد أفرادها 30 شخصاً، وشملت مواقع حساسة عرفت في الوسط القضائي بأنها قريبة من السلطة، استبدلت بآخرين أمثال القضاة غادة عون ورهيف رمضان ونقولا منصور وسمرقند نصار وهؤلاء عيّنوا في التشكيلات الماضية.
يؤكد مرجع قضائي رفيع، أنّ هذه التشكيلات في حال اعتمدت كما رفعها مجلس القضاء الأعلى تُعَدّ إنجازاً على مستوى القضاء، وهي كفيلة بأن تعيد الثقة لعمل السلك القضائي، هي تشكيلات محض قضائية ينجزها مجلس القضاء الأعلى مجتمعاً من دون تدخّل أي مرجعيّة سياسية خلافاً للسابق. وهذا إنجاز يُسَجّل لرئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود، ومدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، وباكورة الورشة الإصلاحية التي أُطلقت داخل القضاء.
كما ذُكِر أنّ مجلس القضاء الأعلى قام بواجبه على أكمل وجه وحوّل التشكيلات الى معالي وزيرة العدل يومذاك ماري كلود نجم التي كانت قد أعلنت قبل أن تصلها التشكيلات، انها تنتظرها بفارغ الصبر… ولكن عندما وصلتها جاءها «اتصال» فغيّرت كلامها قائلة بأنها تريد أن تدرسها قبل أن توقعها… وللعلم فإنّ التشكيلات ظلّت عندها من 5-3 لغاية 1-6 وبالرغم من ذلك وقّعت التشكيلات وأرسلتها الى فخامة الرئيس بعدما وقعها رئيس الحكومة حسان دياب، وما إن وصلت الى القصر حتى قال فخامته إنّ عنده بعض الملاحظات حولها، وطلب إعادة النظر فيها فالأمر متروك لتقدير المجلس الأعلى للقضاء.
ثم جاء رأي فخامة الرئيس في كتاب وجهه مدير عام الرئاسة، الى رئيس مجلس الوزراء بواسطة الأمانة العامة لرئاسة المجلس، وكما يقول المثل الشعبي «بين حانا ومانا ضاعت لحانا».
وهكذا توقفت التشكيلات والسبب الحقيقي هو أنّ فخامته بحاجة الى مدّعي عام التمييز في جبل لبنان غادة عون كي يكون القضاء لعبة في يد «الصهر»، لينتقم من كل شخصية سياسية أو اقتصادية لا تكون تحت إمرته، أو تحاول الخروج من دائرة نفوذه.
وفي جردة حساب هذه القاضية «المتمرّدة» نرى انها ادعت على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس مجلس إدارة مصرف «إس جي بي ال» (SGBL).. إشارة الى ان فتح مثل هذه الملفات أخذ بُعداً سياسياً واضحاً بمسارين متناقضيين: الأول فريق رئيس الجمهورية الذي دفع بعض القضاة المحسوبين عليه (مثل غادة عون)، لفتح ملفات فساد ترتبط بخصومه السياسيين، وخصوم الصهر الذي يعدّ نفسه لوراثة العم في منصب رئاسة الجمهورية، والثاني فريق يعارض تطلعات و»أحلام» سيّد القصر وصهره المدلل.
لقد جرت محاولات لكف يد القاضية غادة عون من قِبَل مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، لكن وبصفتها محسوبة على الرئيس ميشال عون وصهره المدلل، حوّلت قضية «كف اليد» الى أزمة سياسية جديدة في لبنان.
لقد تمادت القاضية غادة عون في تمرّدها، حتى على أوامر رؤسائها، فاقتحمت أحد مكاتب استيراد الأموال في قضيّة «مكتّف» مدعومة بمناصرين من التيار الوطني الحرّ، وهو ما لاقى رفضاً لبنانياً واسعاً، وقضية «مكتّف» كانت إحدى القضايا التي تتولاها عون، لكن مدعي عام التمييز عدّل مهام عون وأحال القضايا المالية الى قاضٍ آخر، بما فيها تلك المتعلقة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والصيارفة على خلفيّة سعر صرف الدولار في السوق السوداء، إضافة الى قضايا الأموال المهرّبة من لبنان.
إنّ القاضية غادة عون متهمة، بالاستنسابية انطلاقاً من تركيزها على قضايا موجّهة ضد حاكم مصرف لبنان وخصوم «التيار الوطني الحر» على حساب قضايا أخرى مثل هدر الأموال في وزارة الطاقة.
وأحبّ أن أضيف هنا بأنّ القاضية غادة عون واستناداً الى ما تلقته ولا تزال من دعم من سيد القصر وصهره، رفضت مراراً المثول أمام القضاء لمساءلتها، حول التصريحات والمواقف التي أثارتها على وسائل التواصل الاجتماعي والتي نعت فيها «دولة القانون».
ويتساءل المراقبون بكل موضوعية: هل ان «بال» فخامته مشغول حقاً على القضاء..؟ وهل هو حريص على نجاح السلك القضائي، وعلى شفافية القضاة، وعلى العدالة الحقيقية؟ بالتأكيد، يعرف اللبنانيون، ان هناك «تسييساً» فاضحاً للقضاء، واستنسابية لافتة… فبعض القضاة لا يستطيعون الخروج من دائرة «الصهر» وتياره… وإلاّ فالويل والثبور…
إنّ فخامته بتجميد التشكيلات القضائية، عمل على شلّ الحركة القضائية… فسير القضاء معرقل، وهو لا يزال حذراً، خوفاً من التدخلات والمناقلات والعقوبات…
حبّذا، لو يعود القضاء شفّافاً، عادلاً، مع فصل تام للسلطات الثلاث في لبنان، وإبعاد السياسة عن السلك القضائي.
أمّا تغريدات فخامة رئيس الجمهورية بأنّ الأبرياء لا يخافون القضاء.. فجاء رد الرئيس نبيه بري بأنّ أول من يخالف ما ينصح به الآخرين، هو اول من تدور حوله شبهة الخوف، لأنه كان يعلم بالنيترات. وبدلاً من أن يتحرك، حرّك مجلس الدفاع الأعلى ومجلس القضاء الأعلى، ليس لإحقاق الحق بل لحماية نفسه وحاشيته والانتقام من الخصوم بعدما وقعت الواقعة بفضل تقصيره في اداء واجبه الدستوري المتعلق بحماية البلاد.
هنا، فعلاً يبرز تساؤل هو ان فخامة الرئيس علم بموضوع النيترات وخطورة وجودها على المرفأ قبل حوالى شهر من تفجير المرفأ، فلماذا لم يفعل فخامته شيئاً؟
في النهاية يثبت يوماً بعد يوم أنّ الرئيس نبيه بري هو رجل دولة من الطراز الأول، وأهم ميزة تميزه عن باقي رجال السياسة، انه حريص على التوازن الطائفي في لبنان وكل ما يفعله هو المحافظة على هذا التوازن.