IMLebanon

العَهدُ المعْزولُ والحِلفُ المقْرُومُ

 

 

لا يختلف اثنان على أنّ لبنان اليوم بات معزولاً عن العالم الخارجي كنتيجة للسياسة التي انتهجها هذا العهد. ولا يمكن بعد اليوم الاستمرار بهذا النهج القاتل للحياة، في بلد عُرِفَ عبر تاريخه الحديث والقديم بأنّه بلد الحياة. هذه الصورة النمطيّة للبنان التي نجح هذا العهد بتبديلها هي ما يجب تبديله. ولا يعتقدنّ أحدٌ أنّ زجّ لبنان في حلفٍ مزعوم للأقليّات في المنطقة، قد ينقذ ما تبقى من السفينة اللبنانيّة قبل الغرق. فما بين هذا الحلف وهذا التموضع الخارجي عزلة ما بعدها عزلة، ولا يمكن تجاوزها إلا بعد تغيير هذه الصورة النمطيّة الحديثة التي نجح هذا العهد بإلصاقها بصورة لبنان.

 

من المنطقي أن يتمّ ربط ما وصل إليه الوضع اليوم في لبنان بالتراكمات السلبيّة التي حدثت عبر السنين. لكن لا يمكن إغفال المسؤوليّة الكبرى التي يتحمّلّها هذا الخطّ السياسي الذي نجح بإلصاق صورة نمطيّة عن لبنان تبدأ بالكبتاغون ولا تنتهي بالخروج من الشرعيّتين العربيّة والدوليّة. ولا غلوَّ في ذلك لأنّ صورة لبنان الحضارة والحياة هي الشيء الوحيد الذي نجح في ضربه هذا العهد.

 

ولن ينجح هذا العهد باسترضاء الأميركي لفكّ عزلته عبر ملفّ الترسيم البحري، ولا حتّى إن قدّم ما لا يُقَدَّمُ في ملفّ الترسيم البرّي. وعلى ما يبدو أنّ العقدة لا تكمن في الملفّ البحري على قدر ما تكمن في الملفّ البرّي. فالأميركي يريد أن يسحب الذرائع من يد تغطية هذا العهد لمنظّمة “حزب الله” في البرّ والبحر على السواء. لذلك كلّه، إنّ الرّبط بين الترسيمين بات شبه مؤكّد. ولا حلحلة في البحر قبل ضمان الحلحلة في البرّ. ما يعني ذلك أنّ كلّ ما قدّمه هذا العهد من تنازلات في البحر سيبقى مشروطًا بما سيقدّمه من تنازلات في البرّ. وعدا ذلك، يبقى الكلام في سياق المزايدات الإعلاميّة لا أكثر.

 

أمّا بالنسبة إلى نظريّة حلف الأقليّات فهذه نظريّة مقرومة؛ وكلمة مقروم هي اسم المفعول من فعل قَرَمَ أي سبّ أو عابَ بحسب المعجم اللغوي. فهذا الحلف مُعَابٌ في زمن بات فيه العالم كلّه قرية كونيّة واحدة، لا يجوز البحث عن أحلاف قاعدتها العصبيّات الإثنيّة لضمان الوجود. فذلك لن ينتِج سوى المزيد من التقوقع والعزلة. ولعلّ هذا ما يريده هذا العهد بتسويقه لهذا الحلف. ولا أحد يحمي أحداً في هذا الحلف، بل تسيطر نظريّة النّهش بفائض القوّة. وهذا ما نعيشه في لبنان اليوم؛ وهذا ما يجب أن يفهمه مَن ما زال متمسّكًا بمبدأ حماية الأقليّات بعضها بعضاً بواسطة السلاح غير الشرعي.

 

الضمانة الوحيدة هي بمقدار الإنفتاح الذي يستطيع الإنسان أن يحقّقه مع الآخر المختلف. وهذا ما هو لبنان عليه، بلد الرسالة، رسالة السلام. من هنا، كلّ مَن يبشّر بنظريّة حلف الأقليّات إنّما هو يبشّر بما بشّر به الفيلسوف اليهودي صمويل هنتنغتون في كتابه ” صراع الحضارات” في العام 1996. وهذا ما يتنافى بالمطلق مع فلسفة الوجود اللبناني. العجب العجاب، في الظاهر يدعون لمحاربة إسرائيل ويبشّرون بزوالها من الوجود، وهم أكثر مَن يؤمّن لها مقوّمات الحياة، لأنّ المعزول عن العالم وحده يؤمّن ديمومة الوطن العنصري. فما بين العنصريّة وحلف الأقليّات توأمة مضمَرَة. ونحن نملك الحدّ الأدنى من الجرأة لإعلان ذلك.

 

أبواب الفاتيكان مقفلة أمام دُعاة حلف الأقليّات، هذا الحلف المقروم وجوديًّا، والفاتيكان الواضح وجوديًّا في 11 أيّار من العام 1997 في سينودس “لبنان الرسالة” في زيارة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، وفي وثيقة “الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي صدرت في الرابع من شباط 2019 بعد لقاء قداسة البابا فرنسيس شيخ الأزهر الشريف أحمد الطيّب. مشروعان لا يلتقيان أبداً.

 

ويبقى أنّ مَن ذهب إلى الفاتيكان للحجّ ذهب والنّاس كلّها من المحيط إلى الخليج قد عادت من الحجّ. ومَن ينظّر لحماية المسيحيّين بتقوقعهم تحت مظلّة السلاح غير الشرعي إنّما هذه بشارة ذميّة بحلّة جديدة ساقطة شكلاً وجوهراً. فهذا العهد المعزول بسبب ممارساته وتموضعاته لن يجد له حاضناً سوى مَن يرعاه إقليميًّا أي إيران. ومِن خلفها مَن يناسبه مبدأ حلف الأقليّات أي العدوّ الذي يدّعي حليفه محاربته بالعلن.

 

وهذا ما يجب أن يرفضه اللبنانيّون جميعهم لأنّهم يؤمنون بلبنان الدّور والرسالة والوجود؛ بمعنى آخر لبنان الحرّيّة. وهم مدعوّون لترجمة رفضهم هذا ثورة انتخابيّة في صناديق الإقتراع. وإن نجح هذا الفريق بنسف الإنتخابات بدواعٍ أمنيّة من البوّابة الإجتماعيّة – الإقتصاديّة كما يحاول اليوم أن يفعل، فلا بدّ للبنانيّين عندها أن يسقطوا هذا الدويتّو، أي المنظومة والمنظّمة، بالضربة القاضية. فهل يكون الشارع مصدر هذه الضربة؟ أم تكون العلاقات الدّوليّة التي يتمّ شبكها مع دول القرار هي بوّابة العبور إلى الدّولة الحلم؟