بقدر ما كنتُ شديدَ القسْوةِ على نهج الحكم ممارسةً واحتواءً، يفاجئني الرئيس ميشال عـون وهو يُلَملِمُ أوراقه المبعثرة على مشارف نهاية الولاية، ولا يزال يحدِّث زوار القصر بلغة المستقبل لغـةِ «السين» وسوف، حيال المشكلات التي تعاني منها البلاد، والبلاد تنساق في طريق التمزّق والإنحطاط والإضمحلال.
إنها لغـة الطموح التي يتحلّى بها الجنرالات: هكذا يقول نابوليون: «إنّ الجندي الذي لا يطمح بأن يكون جنرالاً هو جندي فاشل».
ولا أُخفي إعجابي أيضاً ببراعة أهـل التيار الوطني والحـرّ، وهم ما زالوا يُطلّون على المنابر السياسية والإعلامية بشجاعة واثقـة ليرفعوا عن الحكم مسؤولية الإنهيار والفساد، بحجّـة أنَّ هذا الفساد دليلُ تراكُمٍ تاريخي يعود إلى سنة 1926، أي إلى عهد شارل دبّاس أول رئيس للجمهورية وقـد عيّنـهُ المفوض السامي الفرنسي… وطبيعي أن يستشري الفساد على يـدِ رئيسٍ صنيعةِ المفوض السامي، ولا يزال مستمراً حتى هذا العهد.
أنا أعرف، أنّ لغـة القصور تختلف عن لغـة معارك الميادين، إلاّ إذا كانت القصور ميدانّاً للمعارك.
وأنا أعرف أن الرتْبةَ كلّما ارتفع مقامُها ارتفعت معه نسبة الرويَّـةِ واللِّـين.
«في أوراق لبنانية (1) «يُروى: أنّ وجيهاً في قومـه عاتب البطريرك الحوّيك على تساهلهِ في إجراءاته البطريركية قائلاً: يا سيدنا لما كنتَ الخوري الياس كنت شديد الحـزم، ولـمّا صـرت مطراناً خـفّ بأسُكَ، ولـمّا اعتلوت السدَّة البطريركية أصبحت في منتهى التساهل والليّن، فأجابه البطريرك: يا إبني إذا أخطأ الخوري الياس كان يقيلُه المطران، وإذا أخطأ المطران يقيلُه البطريرك، أمّـا إذا أخطأ البطريرك فمن يحاسبه..»
إلاّ إذا… كان هذا التساهل سببـهُ الطموح بالإصالة أو بالإنابة، إلى ما بعد هذه الولاية.
الطموح ليس حكراً على السنين، فإذا كان الكبار كباراً، فقد يكبر معهم العطاء.
إبـن المقفّع: عاش أربعة وتسعين عاماً ومات عندما سقطت عليه كتُبُـه من مكتبته.
وفكتور هوغو: دام حبّـه لعشيقته نصف قـرن، وكتب لها عشرين ألـف رسالة على مـدى خمسين عاماً.
ومع أنّ الأخطل الصغير في مهرجان تكريمه وهو على مشارف الثمانين قد استهلّ قصيدته:
أَيـومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمَري مَـنْ ذا يغنّي على عودٍ بلا وتَـرِ..؟
إلاّ أنّ هذه القصيدة كانت من أجمل قصائده.
ولكن… ولكن، إنّ الكبار يستمرّون في حياتهم بعد الموت بما أعطوا.
إنّ «ذكريات ما وراء القبر» للأديب الفرنسي «شاتوبريان» يعتبر النقّاد أنها تساوي كلَّ ما أنتج في حياته.
وإنّ «دفاتر» الفيلسوف باسكال بعد موته كانت تساوي كلّ ما نشرَ وهو حـيّ.
ونحن منذ أنْ كنّا كباراً في لبنان الكبير، لا نزال ننتظر أولئك المجهولين الكبار، لنكبر بهم في حياتهم ونحيا معهم بتراثـهم بعد المـوت.
لأنّ لبنان، بلـدٌ صغير ولكنّه أكبر من صِغَـره…
فيكون أصغر من صِغره مع الرجال الصغار…
ويكون أكبر من كِبـره مع الرجال الكبار…
-1 «أوراق لبنانية»: يوسف ابراهيم يزبك: جزء: -2 ص. 326.