IMLebanon

فعلاً العهد كان قوياً… لكن بقدرته التدميرية

 

 

بعد فترة وجيزة تحسب بالأسابيع وبالأيام، يطوي العهد عمره الزمني المحدد بست سنوات، ليبدأ بعدها الحديث عن العهد وما حققه للشعب من إنجازات، اسوة بما يحصل عادة بعد انتهاء كل عهد رئاسي.

بعد مغادرة القصر ستعلّق صورة الرئيس بجانب صور الرؤساء الآخرين الذين توالوا على الرئاسة في تقليد باتت تعتمده الدولة. والصور المعلقة على أحد جدران القصر الجمهوري، لا تذيّل بنبذة عن السير الذاتية للرؤساء، وإنما يكتفى بتحديد مدة الرئاسة سواء انتهت في استحقاقها الدستوري أو بالتمديد الذي حصل لأكثر من مرة.

وفي استعراض للعهود الرئاسية التي تعاقبت على الحكم في لبنان منذ الاستقلال وحتى تاريخه، كان كل عهد يتصف بصفة لصيقة به وخاصة على مستوى ما يراكمه في مسيرة بناء الدولة. والصفة التي اتصف بها العهد الحالي الذي بات على مشارف أيامه الأخيرة فيما لو سارت الأمور وفق انتظامها الدستوري، هو صفة «العهد القوي». وقد ظن كثيرون ان ما نسبه هذا العهد من توصيف لنفسه أو ما وصفّه به الآخرون، سيجد ترجمته في انجازات تتعلق بتقوية بنية الدولة من خلال تعزيز دور المؤسسات في إدارة المرفق العام وفقاً للأحكام الدستورية والقوانين النافذة، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي من خلال توفير حزمة من الضمانات التي على الدولة تأمينها لمواطنيها في حقول الطبابة والتعليم والسكن والنقل وكل ما له صلة بالأمن الحياتي، وإدارة سياسة متوازنة في علاقات لبنان الخارجية. لكن وقبل أن يحل الأجل الدستوري لانتهاء العهد الرئاسي المسمّى بالعهد القوي ويبدأ كتبته بالتوثيق «لإنجازاته العظيمة»، استبق سيد العهد الأمر وبشّر بأننا ذاهبون الى جهنم. وجهنم في النص الديني هي جحيم لا ينطفئ أواره في الحياة الآخرة، ومن يكون مستقره فيها إنما يكون بأمر إلهي عقاباً لما ارتكبه الإنسان من مخالفات للأحكام وأصول المعاملات ولكل الموبقات التي حرّم الله القيام بها كما جاء في الرسالات السماوية. فما هي الكبائر التي ارتكبها الشعب اللبناني حتى يعاقب بالدفع به الى جهنم كما بشّر بذلك الرئيس؟ ان أقصى ما كان يطالب به اللبنانيون هو عيش كريم في ظل نظام تسوده قواعد العدالة الاجتماعية، وتطبق قواعد المراقبة والمساءلة والمحاسبة والشفافية والحوكمة، وقطع دابر الفساد والافساد للحياة العامة. وهذه كلها تندرج في إطار عملية البناء الوطني الذي يفترض بمن يتولاها أن يكون قوياً. ولهذا أعتقد الناس ان العهد الذي قدّم نفسه تحت عنوان العهد القوي سيعزز البنيان الوطني، بحيث يجعله قادراً على مواجهة نوائب الدهر بأسبابها الطبيعية أو الإنسانية.

لكن الذي تبيّن ان الذي حصل هو العكس تماماً، إذ فيما كان المأمول هو البناء الوطني، تبيّن ان المشهود هو التقويض السريع للبنيان الوطني. والمنطق الذي يفضي الى القول ان البناء يتطلب إرادة وعزيمة وقوة واقتداراً، يفضي الى القول أيضاً ان التقويض يتطلب إرادة وقوة واقتداراً وبما يفوق قوة البناء. فمن يبني يكون بالتأكيد قوياً، لكن في المقابل فإن من يقوض يكون أقوى. ويبدو ان العهد اعتبر نفسه قوياً لانه يمتلك القوة والقدرة على التدمير، وهذا لم يقتصر على المرافق الحياتية والحيوية، وهذا يحصل في الأزمات الكبرى والحروب، بل طال التدمير بنية الدولة التي تتولى تسيير المرفق العام وحماية الانتظام العام تحت سقف القانون.

ان كل الخدمات التي يفترض على الدولة أن تؤمّنها، من الكهرباء، الى الماء، ومن الاستشفاء الى التعليم، ومن السكن الى النقل، ومن توفير فرص العمل الى ضمان الشيخوخة، انعدمت في ظل العهد الحالي، ومع انعدام هذه الخدمات والتقديمات التي هي حق للمواطن على الدولة، سقطت الدولة عبر اسقاط وظيفتها الرعائية والحمائية، وهذه كلها كانت من «انجازات» هذا العهد الذي لم يكتفِ بما حققه، بل وصل الأمر به الى إسقاط الدولة ليس بوظيفتها العامة وإنما بوجودها. وعندما تسقط الدولة بوجودها وبوظيفتها فهذا يعني اننا عدنا الى مرحلة ما قبل قيام الدولة. وكل ذلك بفضل العهد القوي الذي استعار مجازاً قوة إلهية وحدّد لنا وجهة السير الإلزامية الى المستقر النهائي في جهنم.

إذا كان السبب الظاهري لهذا الإسقاط للدولة بوجودها ووظيفتها هو النهج الذي اعتمد العهد القوي في إدارة حكم يقوم على المحاصصة واستشراء الفساد والهدر للمال العام وانعدام المحاسبة وتمرير الصفقات المشبوهة في السدود والأشغال والصناديق والمجالس وإدارة المرفق العام بعقلية يستبطنها السلوك الميلشياوي وأكثرها فجاجة ما يشهده المرفق القضائي، فإن الهدف المضمر لهذا التدمير الشامل، كان لتمهيد الأرضية لإعادة التأسيس ليس لنظام سياسي يحاكي المتغيّرات في الإقليم وفي ضوء موازين القوى القائمة على الأرض في هذا الظرف وحسب، إنما بنفس المستوى لإعادة بناء دولة تحدد وظيفتها في ضوء المتغيّر السياسي الذي يراد فرضه بقوة الأمر الواقع.

من هنا، فإن الشعار الذي يفترض أن يتصدر الحركة الوطنية  الاعتراضية، يجب أن لا يقتصر على عناوين التغيير السياسية وحسب، وإنما على التصدي لكل مشروع يهدف الى إسقاط الدولة بوجودها ودورها ووظيفتها، وهذا لا يتم الوصول إليه إلا بإعادة الاعتبار لشعار حماية الدولة وتقوية مرتكزاتها وتعزيز دورها عبر وظائفها الأساسية وأولها ممارسة سيادتها على مواطنيها وعلى ترابها الوطني.