لا يستغربنّ أحد إذا انقطعت بعد اليوم الاتصالات واللقاءات والجسور بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تأليف الحكومة نجيب ميقاتي، وإن حصل شيء من قبيل الوصال بينهما، فإنّه قد لا يسمن ولا يغني من جوع البلاد إلى حكومة كاملة المواصفات الدستورية، تشرف على إنجاز انتخاب رئيس جمهورية جديد قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي في 31 تشرين الاول المقبل.
المعلومات المتوافرة لدى المرجعيات المسؤولة والمعنية حول ترسيم الحدود البحرية لا تبشر بحصول هذا الترسيم قبل الانتخابات الاسرائيلية، وليس هناك من ضمان بحصوله بعدها. وانّ الموقف الاسرائيلي لا يبشر ايضاً بوجود نيات جدّية لدى تل ابيب لتوقيع اتفاق مع لبنان في هذه العجالة، وفق ما يحفظ حدوده وحقوقه. ولذا، فإنّ بعد زيارة الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين اليوم، سيكون الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات، في ما يمكن لبنان ان يتخذه لحفظ حقوقه حدوداً وتنقيباً واستخراجاً.
اما المعلومات عن مفاوضات فيينا حول الملف النووي الايراني، فتؤكّد هي الاخرى، أن لا اتفاق قريباً سيحصل بين واشنطن وطهران على العودة إلى اتفاق 2015 الذي كانت الولايات المتحدة الاميركية انسحبت منه ايام الرئيس السابق دونالد ترامب. ويظن البعض، انّ اتفاقاً من هذا النوع لن يحصل قبل الانتخابات النصفية الاميركية في تشرين الثاني المقبل.
ومع انّ البعض يعتبر انّ الربط بين الاستحقاقات الداخلية اللبنانية وبين الترسيم البحري ومفاوضات فيينا النووية هو ربط غير منطقي وليس واقعياً. وفي غياب أي مبادرات عربية تجاه لبنان، فإنّ الوضع اللبناني يتجّه إلى مزيد من التعقيد، خصوصاً مع استمرار الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية على استفحالها وتناسلها في كل المجالات. وبدل ان تبادر كل القوى السياسية إلى تدارك الموقف والنأي بمعالجة الوضع الداخلي عن مصير الاستحقاقات الاقليمية، نراها منقادة إلى تلك الاستحقاقات على حساب عدم الشروع في إنجاز الاستحقاقين الحكومي والرئاسي وتأهيل لبنان لملاقاة الاستحقاقات الاقليمية، اياً كانت انعكاساتها وتداعياتها.
ولكن ما استوقف الأوساط السياسية هي المواقف الهجومية التي عبّر عنها عون لـ”الجمهورية” أمس، حيث وجدت فيها انعكاساً للتعقيدات التي تواجه الاستحقاقات الداخلية وكذلك الاستحقاقات الاقليمية والدولية. اذ بدا عون انّه قطع كل جسور التواصل بينه وبين الآخرين، وتحديداً بينه وبين كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، عندما حمّلهما مباشرة ومداورة مسؤولية مشتركة عن “عرقلة” تأليف الحكومة خلافاً لرغبته، إن لم نقل لشروطه.
وفي الوقت الذي لفّ الصمت عين التينة، حيث لم يصدر عن بري او اي من نواب كتلة “التنمية والتحرير” وحتى من نواب حركة “امل” ومسؤوليها اي ردّ على عون، تبين انّ رئيس المجلس اتخذ قراراً بعدم الردّ، خصوصاً بعدما بلغه ما دار بين عون وميقاتي في لقائهما الاخير، والذي كان لرئيس المجلس حصة من كلام عون فيه.
المطلعون على موقف ميقاتي استغربوا مواقف عون وتخوفوا من ان تكون القطيعة قد وقعت بين الرجلين، ما سيؤثر سلباً على الاستحقاقين الرئاسي والحكومي. ويقول هؤلاء، انّ عون “كشف في آخر عهده كل ما حاول إخفاءه طوال هذا العهد من تبادل ادوار بينه وبين رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، ما يعني انّه كشف عن وجهه الحقيقي في طريقة التعامل مع الآخرين منذ انتخابه رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الاول 2016″. ويضيفون، انّ ميقاتي “منذ تكليفه الحكومة كان يحاول الفصل في ما يتخذه من خطوات ومواقف بين عون وباسيل، ولكن ما عبّر عنه رئيس الجمهورية الآن كشف انّه كان يقف خلف باسيل في ما يتخذه الاخير من مواقف، وهي مواقف لم تترك لرئيس الجمهورية مجالاً للصلح مع أي فريق سياسي، وهذه كانت احدى أهم اسباب عدم نجاح العهد في التعاطي مع الآخرين”.
ويضيف المطلعون، انّه “في الوقت الذي كان ميقاتي يتعاطى مع عون كشريك له في تأليف الحكومة ولا علاقة لباسيل بهذا الشأن لا من قريب ولا من بعيد، إذ به يكتشف انّ باسيل كان يتدخّل لدى عون في الامر ويعطّل امكانية التفاهم على الحكومة، وإذ بميقاتي يتفاجأ برئيس الجمهورية هذه المرة يحرق المراحل ويعلنها معركة مباشرة ضده، معتمداً لغة التحدّي التي استخدمها عام 1989، ولكن فاته هذه المرة انّ تقدّمه في السن لم يعد يطاوعه لرفع الصوت عالياً في وجه الآخرين كما فعل في ذلك العام.
ويقول وثيقو صلة بالعلاقة بين عون وميقاتي، انّه “فات رئيس الجمهورية انّ زمن “اتفاق الطائف” غيّر كل المعادلات، حيث لا يمكنه الانقلاب عليه بقوة الامر الواقع. فمثل هذا الانقلاب إن حصل لن يمرّ، لأنّه لن يكون في وجه ميقاتي فقط وانما في وجه جميع القوى والشرائح التي تتمسك باتفاق الطائف واستكمال تطبيقه، وبالتالي لا يمكنها السماح بالانقلاب عليه لأنّه بات دستور البلاد منذ مصادقة مجلس النواب على الاصلاحات الدستورية التي انبثقت منه عام 1990″.
ويلفت هؤلاء “انّ رئيس الجمهورية أقسم على الحفاظ على الدستور عند انتخابه في مجلس النواب عام 2016، فكيف له ان يخالف هذا الدستور بالتلويح باتخاذ خطوات يؤكّد فيها انّه لن يقبل بتولّي صلاحيات رئاسة الجمهورية في حال حصول فراغ في سدّة الرئاسة إذا تعذّر انتخاب رئيس جديد، فيما الدستور يلزمه بمغادرة قصر الرئاسة إلى منزله لحظة انتهاء ولايته من دون اي إبطاء، سواء انتُخب رئيس جديد أو وقع الفراغ، حتى انّه اذا تأخّر لدقائق عن المغادرة عُدَّ مخالفاً للدستور، خصوصاً انّ هذا الدستور ينص في احدى مواده على ان لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بمسؤوليته “الّا في حالتي خرق الدستور والخيانة العظمى”.