IMLebanon

سقوطه مريع وحسابه كبير

 

قد تكون شعوب العالم أجمع، بتفاوتٍ بين بعضها البعض في الوعي الوطني والإدراك لقيمة المواطنية، تفتقد جميعها للمعرفة المناوراتية السياسية، فكلما ارتاحت الشعوب والمجتمعات في دقائق وتفاصيل حياتها وكلما نالت نسبة اكبر من حقوقها ومطالبها وتوصّلت الى الرفاهية الاجتماعية، كلما ابتعدت عن الإهتمام بالأمور السياسية العادية اليومية. وكلما استقرّت واستقلّت في أمورها وبنت ثقة عالية وعلاقة جيدة مع مؤسسات الدولة، كلما استطاعت ممارسة حقّها في المحاسبة وطوّرت فهمها للمواطنية الصحيحة وقيّمت دورها وقدراتها على التأثير على القرارات الوطنية، وكلما حاسبت قياديّيها وأحزابها على قراراتهم وتموضُعاتهم السياسية ونتائج أعمالهم. عكْسَ ذلك، فكلّما جنحت السلطات إلى الخطوات التسلّطية والسلطوية الكريهة والقمعية ومفاعيلها البوليسية والتدجيلية والمافياوية، كلما عُرقلت الشعوب من إضطلاعها بصلاحياتها وحُرمت من نيلها حقوقها بمنهجية مؤسساتية وكلما ربطتها السلطة قصداً بها لوقف تحرّرها منها.

 

يتميّز الشعب اللبناني بخصائص عدة، منها السلبية ومنها الإيجابية، وإن كان يحمل في إرثه ميزة سعيه الدائم، حمايةً لمصالحه ولمواقعه ولأعماله، لتأمين أغطيةٍ زعاماتية يصطفّ خلفها ويقدّم لها الدعم الأعمى، فقد درَجَ على ذلك الأداء الزبائني نتيجةً لضعف الثقة بالدولة ومؤسساتها المُصادرة من النافذين. ولكنّه في الوقت ذاته حافظ على ميزة إيجابية، فتمسّك بحقه بالمحاسبة وبتأكيده على تعلّقه بالتحرّر، وقد برز ذلك اخيراً عندما سنحت الفرصة له من خلال التحركات الإنتفاضية في السنوات الأخيرة ومن خلال الإنتخابات النيابية الأخيرة التي حاسب فيها بنسبة كبيرة زعماء خضع لهم سابقاً وحماهم واستمات لأجلهم.

 

ان علاقة الناس في لبنان مع الحكّام، يتنازعها مسارانِ، اوّلهما وهو التقليدي الذي يتباهى بالإلتحاق بزعيم العائلة او الحزب او الطائفة على العمياني «بالروح وبالدم»، والثاني الدعم المشروط والتأييد المبني على القناعات، وعلى قدر ميل الشعب اللبناني الى محاسبة الرئيس المنتهية ولايته، على قدر ما يؤكد تأهّله وجهوزيته للدخول في مصاف الشعوب القابلة للتطور وللاصلاح وللمسار الثاني الذي يشق طريق الوعي الوطني وبالتطوير الاجتماعي والسياسي. يقول المؤلّف والمنتج الاميركي جيم رون «الاتجاه الذي تضع فيه الشراع هو الذي يُحدّد وجهتك وليس اتجاه الرياح». ان سقوط ميشال عون السياسي وقبله العسكري ومن بعده التنظيمي والفكري والسيادي والاداري، وانكشاف خداعه السياسي وألاعيبه التنافسية وانفضاح قدراته للتخلّي عن خطاباته السيادية ووعوده الاصلاحية، لم يعد مجالاً للنقاش، فالشواهد والدلائل على مدى 30 سنة تؤكد ديماغوجيته، وكما قال الصحافي الاميركي والكاتب الهجائي هنري منكين «الديماغوجي هو الزعيم الذي يُبشّر بمبادئ يعلم هو انها باطلة لجموع يعلم انها مغفّلة» فالديماغوجي لا يخشى المحاسبة لانه يتّكل على عدم ادراك الحشود لخطورة التساهل والتراخي في المسائل الوطنية. قد يُفضّل الشعب اللبناني الطيّب مفهوم «عفّى الله عما مضى» متجنّباً المواجهات والصدامات، ومصطفاً ربما طائفياً نصرةً للمرتكبين، ولكن لا يُعقل ان تمرّ ارهاصات وفبركات ميشال عون ضد معارضيه من دون محاسبة ومن دون الاضاءة عليها «الرحمة للمذنب قساوة للبريء» قالها اب الرأسمالية الفيلسوف آدم سميث. فان كان دعاة الرأسمالية الجشعة قد نادوا بضرورة المحاسبة فكيف اذاً ان كانت فئة من الناس قد تمّ التعدّي على شرفها وتمّ تشويه صورتها ونضالاتها وتمت ابلستها. وصف الرب يسوع الحاكم هيرودس بالثعلب، لان هيرودس كان محارباً لكلمة الله والحق، وكان يُمارس الشرّ والبطش لتحقيق مصالحه الشخصية، فالشر هو ذاته في كل العصور والأزمان، والخلاص لا يُبحث عنه في الاستمرار بعدم تحمّل وتحميل المسؤوليات «التطور لا يكمن في تجميل الواقع الحالي، بل بالتقدّم الى ما يجب ان يكون» من اقوال المفكّر اللبناني جبران خليل جبران.

 

ان تخلّي ميشال عون عن معركته السيادية، في المرحلة الاولى لدخوله الى الشأن السياسي، امام نيله رضى النظام السوري يضرب كل ما قاله حول هذا النظام «اريد الصداقة مع الشعب السوري وليس مع النظام في سوريا» و»الشخصيات اللبنانية التي كشفت المخططات السورية الشريرة ورفضت الانصياع لها والتسويق لها وللصراعات الداخلية قد تم اغتيالها». هذه تعابير لميشال عون قبل اتمام الصفقة معهم، فهل يجب ان يُحاسب عليها؟ امّا بالنسبة لعلاقته مع «حزب الله» فقد انتقل مئة بالمئة من ضفة العدائية والتحذير من اهداف هذا الحزب ومشروعه الى ضفة الاستماتة للدفاع عنه وتبييض صفحته «لا استطيع ان احاور «حزب الله» وهو يحمل البندقية، فليضع البندقية جانباً وعندها نجلس معاً ونتحاور» ثم «ألم تسمع الخطابات التي هدّدتنا بالحرب الاهلية في حال مطالبتنا بالانسحاب السوري، «حزب الله» هو الذي هدّد ومن غيره يملك السلاح وانه في الخط الامامي للدفاع عن النظام السوري»، قال هذا الكلام في سنة 2002 وتخلّى عن هذا المنطق في 2005.

 

امّا في المرحلة الثانية وبعد عودته الصاخبة الى لبنان، فقد شنّ هجومات عالية النبرة ضد كل من عانده في الشؤون الرئاسية وفي تأليف الحكومات وتوزير النافذين وتعيين القضاة والقادة الامنيين، وعقد اتفاقات عديدة مع اطراف مضادة بهدف واحد وهو تمرير وصوله للسلطة والقبض عليها، ولم يحترم شيئاً من تفاهماته، الا تلك التي سلّمت القرار اللبناني لـ»حزب الله»، كونه الغطاء الذي يحتاج اليه لضمان استمراريته وتأمين التوازن مع الآخرين. فشنّ الهجوم ضد فساد افرقاء من حركة 14 أذار، وفتح لهم دفاتر الابراء المستحيل، ثم اتفق معهم على حكومات وحدة وطنية وتفاهمات رئاسية، وخوّن وجرّم وشوّه صورة المقاومة اللبنانية وشهدائها ومن ثم هرول الى مركز قيادتها في معراب لعقد تفاهم يسهّل له الوصول الى حلم السلطة وليس حلم الكرسي. فهل يُعقل ان تمرّ هذه الاعمال الشرّيرة من دون حساب؟؟؟

 

ان كنّا نريد ان ندخل عصور الازدهار والاستقرار والتطور، وان كنّا نريد الانتقال الى مقاييس الدول الحضارية، فعلينا كشعب ان نبتعد عن الاحكام المسبقة ضد الفرقاء السياسيين بل محاسبتهم ومساءلتهم وتقييمهم بناء لاعمالهم وليس لما استطاع اخصامهم تصويرهم لنا. الحقد في السياسة سقوط وفشل.

 

يحاول الفاشلون بناء امجادهم على انقاض الآخرين، فليذهب الشعب اللبناني هذه المرّة لبناء يقظته على محاسبة «الزعماء العظماء» الفاشلين.

 

(*) عضو تكتل «الجمهورية القوية»