يغادر الرئيس ميشال عـون قصر بعبدا، وعينُـهُ على الكرسي، هذا شأنُ كـلِّ مَـنْ جلَس على العرش سعيداً أوْ تعيساً.
منذ ما قبل عهد الرئيس بشارة الخوري، وحتّى أكثر الرؤساء الزاهدين، كانوا وهُـمْ يوّدعون المقعد «المذهّب» يتمسّكون بـهِ بأسنانهم، كأنّهم معه في زواج ماروني، ولا يفـرّق بينهما إلاّ المـوت.
ويقال: إنّ الرئيس عـون سيغادر القصر وسط مهرجان من الزغاريد، مشيَّعاً بتـيّارٍ من البرتقاليين، يرفعون أصابع النصر ابتهاجاً، ليدلّوا الناس على طريق المجد.
وكأنّ علينا أنْ نصفّـق حيث يجب أنْ نلاطم الخدود، وأن نضحك حيث يجب أنْ نذرف الدمـع.
لا نقلّل من حجم فخامة الرئيس، إلاَّ إذا كان المقصود بالتعظيم والتفخيم، الرئيس عـون شكلاً، وضمناً الخليفة الظـلّ:
«ومَـنْ لا يكـرِّمْ نفسَهُ لا يُكـرَّمِ».
يوم دخل الرئيس عـون قصر بعبدا، خاطب الشعب: يا شعب لبنان العظيم، ويـوم يخرج من القصر… أيَّ شعب عظيمٍ يخاطب..؟
ويـوم استلم زمام الفخامة قال: سأجعل لبنان أفضل مما كان عليه قبل الولايـة، وتنتهي الولاية… وإلى أيِّ لبنان أفضل يعود…؟
لم يكن لبنان جنّـة تجري من تحتها أنهارُ اللَّبـنِ والعسل، ولكنّه لم يكن جهنّـم.
لا يزال في لبنان علماء سياسة وعلماء اجتماع، ومؤرّخون علماء، وسياسيون حكماء، يعرفون جيداً كيف تكون الأحكام، وكيف يكون الحكّام، وكيف يكون الحكم الناجح، وكيف يكون الحكم الفاشل، وما هي أسباب الفشل وأسباب النجاح.
ومع آخـر الشواهد يبـرزُ السؤال: كيف يُنجِـزُ الحكم الترسيم الحدودي البحري مع إسرائيل، ويفشل في مناقشة الترسيم البحري مع سوريا…؟
لـوْ أنّ إخواننا «التيّارين» يتواضعون قليلاً في تصوير إنجازات الرئيس على أنها بطولات، لَما كان الموصوفُ ضحيّـة الوصف، مع أنّ «الأبطال» كالقديسين لا يحتاجون إلى الشهادات.
حين راح الزعيم الشيوعي يوسف ستالين يخطب فـي الشعب الروسي العظيم، إستوقفه أحـدُ الفلاّحين قائلاً: لقد وعدتَنا بأنْ تجعل لنا فردوساً إجتماعياً، وأنـا حتى الآن لا أملك ثمـن حـذاء، فأجابه ستالين: ومَـنْ قال لك إيها الرفيق إنّ الناس في الفردوس يحتاجون إلى الأحذية…؟
وبالرغم من هذه البراعة في الجواب، فقد ظـلّ الفلاّح الروسي حافياً.
لا نتّـهم الرئيس عـون بأنّـه مسؤول وحـده مع الحاشية عمّـا حـلّ بالبلاد من فواجع، وقد أصبح الفساد فيها هو النظام.
مع أنّ الفساد كما يقول أبو العلاء المعرّي: عائدٌ إلى طبائع البشر، وما داموا يتناسلون بالوراثة، فالطبائع: هي هي، والفساد: هو هو.
ولكن، لأنّ التاريخ لا يبـرّيءُ ذمَّـة الرئيس عـون، ومن باب التعاطف مع المعاناة، فإنَّ على الموكب الرئاسي وهو في طريقه من بعبدا إلى الرابية، أنْ يتلطّف ويتوقّف أمام ما يصادفه من: مستشفى وجامعة ومصرف وفندق ومصنع ومتجر، وأمام شركة الكهرباء والأفران ومحطات الوقود وأبواب السفارات.
وعليه، من باب المؤاساة أنْ ينحني خفَـراً أمام المرفأ ويقـف دقيقة صمت.
لعـلّ ما عجـز الرئيس عـون عن تحقيقه في القصر، يستطيع الجنرال عـون أنْ يستدركهُ في الرابية.
وليكنْ ما في القصر للقصر، وما في الرابية للجنرال.