Site icon IMLebanon

ميشال عون: إتبع سهام الأعداء لتعرف قوّة المحارب

 

كانت المكتبة في الضيعة واحدة من دكاكين كثيرة، تهتم ببيع القرطاسية أكثر من اهتمامها ببيع الكتب، فلا تلفحها تلك الرائحة التي تعشّش في المكتبات، ولا تحتار حين تدخلها من أين تبدأ الاختيار. الكتب – الروايات معدودة، وما لن تأخذه اليوم أو الأسبوع المقبل سيكون هو نفسه متوفراً بعد شهر أو عام أو عقد، فلا زبائن يستحقون التجديد أو التنويع.

 

مع ذلك، تتسلل من رواية إلى أخرى، من عالم إلى آخر، مكوّناً صداقات جديدة تتناقش معها بين السطور في شؤون لم يسمع بها المحيطون بك في الضيعة والمدرسة والعائلة. وهي الكتب – الروايات التي تنبئك بوجود عالم أوسع بكثير من عالمك الصغير، ومهن وأحلام مختلفة، فتتلمّس مخارج تنقذك من المصيدة البعيدة التي وُلدت فيها. مع هذا التوق إلى التحرّر والاستكشاف والبحث عن مخارج، يطلّ ميشال عون في مقابلته الأولى بعد النفي، عام 1998، فـ «تتعمشق به». أنت في الرابعة عشرة من العمر، وهو الممنوع المرغوب. أنت في قرية عكارية نائية، وهو في باريس التي نادراً ما تنتهي رواية من دون المرور بشوارعها أو التسكع في مقاهيها أو التباهي بحرّياتها. أنت ضمن النطاق المباشر للوصاية السياسية والفكرية والفنية، وهو ضمن اللانطاق. يخرجك من العالم الصغير إلى عالم أوسع لتصبح، بين يوم وآخر قبل أن تبلغ الخامسة عشرة «خبيراً» في حقوق الإنسان والحق الإنساني، ثم «مناضلاً»، فناشطاً سياسياً تعامله المدرسة والتلاميذ والقرية والجامعة و«قصر نورا» والناس كأنه شخص آخر، أكبر بكثير من عمره. تسمعه عبر الهاتف يقول لك: «في قريتك والمدرسة والجامعة وحيثما وجُدت، أنت ميشال عون؛ تصرف على هذا الأساس».

 

يحملك من مكانك الضيق إلى مكان أوسع بكثير. تسمعه ثم تشاهده يتحول إلى أحد آخر في صالون يضم ثلاثين شخصاً، ليلائم في كلامه وأمثلته شخصية كل منهم، ليفهموا عليه أكثر. يخترع ذكريات مشتركة مع عسكريين متقاعدين تجعلهم يخرجون متباهين بتفاصيل صغيرة جمعتهم بالقائد ثم الزعيم فالرئيس، ويأخذه الشغف بعيداً في الحديث الزراعيّ مع آخر، ثم يذهب في جميع الاتجاهات اللاهوتية مع ثالث ورابع وخامس. يتحدث عن دساتير الأمم وثورات الشعوب ومنطلقات بناء الدول، وعن ذكرياته المشتركة مع الرئيس كميل شمعون ورأيه بالشهابية والكتائب والكتلة الوطنية، ثم يسألك عن عائلتك ومكان عملك وسكنك، مستفسراً عن تفاصيل التفاصيل لينتقل في علاقته مع كل من يلتقيه من العام إلى الخاص، ويصبح الصديق الزعيم. لكل إنسان لغته الخاصة، يقول لك لاحقاً، ولا يمكن أن تتحدث مع الجميع باللغة نفسها أو بالطريقة نفسها أو بالحجج نفسها. كانت هذه نقطة قوة ميشال عون في مكان، حين كانت السياسة تتكل على «الشخصيّ – المباشر»، ونقطة ضعفه حين صار ملعب السياسة هو مواقع التواصل الاجتماعي حيث لا يسمع أحد لأحد، وتخرج الأحاديث من سياقها، ويُقوّل أيٌّ كان خصمه ما لم يقله. أن تحب ميشال عون لأن والديك كانا يحملانك على أكتافهما إلى بعبدا في أواخر الثمانينيات شيء، وأن تحبه كجزء من الشخصيات الأسطورية التي تقرأ عنها بشغف أمر آخر. مهمة الأول سهلة، والثاني صعبة. أن ترى فيه زعيماً آخر لحزب أو طائفة أو تيار شيء، وأن ترى فيه فكرة دولة عادلة وشعب واحد أمر آخر. أيضاً المهمة الأولى سهلة، والثانية صعبة. هل هو الامتداد البشيريّ الشمعونيّ كما يعبّر بعض أنصاره، أو المشروع المشرقيّ كما يعبر هو نفسه؟ ستواصل سؤال نفسك: هو الواقعية السياسية التي تستوجب تفاهمات ومصالحات وتدوير زوايا كما يفعل هنا وهناك، أم هو الأسطورة التي تقول لك إن عليك أن تحلم وتحلم؟ ستسأل أكثر: هل هو هو أم أنه ما تتخيّله أنه هو؟ هل هو ما يقوله أو ما يتخيّل البعض أنه قاله؟ أن تُسيّرك عاطفتك خلفه شيء، وأن يسيّرك عقلك خلفه أمر آخر. وهنا، المهمة الأولى سهلة لكثيرين، وشاقة جداً لقليلين.

 

ضمن ميشال عون، هناك عون – قائد الجيش الذي كوّن حوله درعاً واقية من الأصدقاء الأوفياء الذين رافقوه حتى الرمق الأخير. وعون – بيت الشعب الذي أسر قلوباً تجاوزت في عشقها له كل الحدود ولم تتخلّ، بغالبيتها، عن تأييدها له رغم كل التحريض والتعبئة والإنفاق المالي، في ظاهرة غير مسبوقة لشخصية بلا جذور إقطاعية أو مالية أو إقليمية. وعون – القائد لبضع مئات من الشباب الجامعيين الذين حكمت علاقتهم به كل ما يحكم العلاقات الطبيعية بين الوالد وأبنائه من غرام وحب وغضب وانتقام. وعون – 2005 الزعيم السياسي لأكبر تكتل نيابي في تاريخ الزعماء المسيحيين. وعون – الاستراتيجي المشرقي الذي صاغ تفاهماً مع حزب الله لا يمكن مقارنة تداعياته السلبية المحدودة المؤقتة بتداعياته الإيجابية البعيدة الأمد. وعون – السلطة الذي افترض أن المسارات العليا الكبيرة أهم بكثير من الزواريب الضيقة الصغيرة، فسار خلف قناعاته، مفترضاً أن الناخب يفضل المصالحات والتفاهمات على الاشتباكات والعنتريات، تماماً كما افترض أن وضع لبنان على سكة الدول النفطية أهم بألف مرة من الخدمات الصغيرة هنا وهناك.

وهو كوّن، عبر هؤلاء جميعهم، تلك الشخصية التي يحبها كثيرون ويكرهها كثيرون، إلى ما بعد بعد الحدود الطبيعية. لا حب جمهوره له طبيعيّ، ولا كره جمهور خصومه له طبيعيّ. في جمهوره لا نائب يشبه نائباً آخر، ولا مناصر يشبه مناصراً آخر. تلاوين متعددة غير متجانسة في مقارباتها السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، تصنع تياراً لا يشبه أيّاً من الأحاديات الشمولية الجامدة المهيمنة على الأحزاب والتيارات الأخرى، حيث لا يمكن أن تتعدد وجهات النظر أو تختلف وتتصارع. وهنا، أيضاً، تبرز شخصية ميشال عون الذي يرى في هذه التعددية مصدر قوة وغنى، فيما يخشاها الآخرون ويرونها مصدر زعزعة وضعف. ميشال عون لا يخاف التنوّع بعكس كثيرين، وفي تياره هناك من يحترم التنوّع ويقدّره، ومن يزدريه ويخافه.

 

في القصر، لا بدّ من تجزئة عهد ميشال عون إلى جزءين؛ ما قبل 17 تشرين، وما بعده. بين انتخابه رئيساً و17 تشرين: لم يكن رئيساً تصادمياً كما يتخيّل كثيرون، إنما استيعابيّ بامتياز، سواء مع سعد الحريري أو مع نبيه بري ووليد جنبلاط، أو حتى مع رياض سلامة. لكن أحداً من هؤلاء لم يلاقه في منتصف الطريق. تجاوز العهد قطوع خطف الحريري في السعودية. أمّن الغطاء السياسيّ لإنهاء ظاهرة التكفيريين ليس فقط في جرود البقاع وإنما في كل المناطق اللبنانية، لتنتهي الظاهرة التي هددت الاستقرار بالأحزمة الناسفة لأكثر من عشر سنوات. أقرّ أكبر خطوة إصلاحية سياسية يمكن تحقيقها تمثّلت بالنظام النسبي في قانون الانتخابات الذي لطالما كان حلماً لرواد الإصلاح الحقيقيين في لبنان. كما أقرّ حق المغتربين في الاقتراع، بوصفه مطلباً تقدمياً مزمناً. عيّن ملحقين اقتصاديين في السفارات اللبنانية في العالم بالتنسيق مع المعنيين في قطاعَي الصناعة والزراعة لفتح آفاق جديدة أمام الإنتاج الوطني. ذهب إلى الصين وألمانيا لتوقيع اتفاقيات سياحية وصناعية كانت قد بدأت تؤتي ثمارها حين خُرّب كل شيء. بدأ العمل بمجموعة مشاريع إنمائية حقيقية ستكون لها انعكاسات اقتصادية مباشرة حتى لو منعوا إتمامها في عهده، من طريق القديسين إلى مرفأ جونية السياحي ومجموعة السدود التي حلت أزمات المياه حيث سمح بإنهائها، ولا تزال المشاكل القائمة حيث تعرقل إنجازها. ثبّت الاستقرار المسيحي – الشيعي والمسيحي – السني والسني – الشيعي عبر تثبيت التفاهمات، رغم كل مآخذه على أداء الرئيسين الحريري وبري وغيرهما. بدأ العمل بحقول الغاز بعد توقيع المراسيم التي أخّرها خصوم التيار أكثر من أربعة أعوام. رفض الخضوع في ملف النازحين السوريين، كما في ملف صفقة القرن، وفي ملف التآمر على حزب الله في ما يخص الرؤوس الذكية. ورغم كل العراقيل واصل الإصرار – عبثاً – على وضع خطط النفايات وإقفال صندوق المهجرين والكهرباء موضع التنفيذ. وهو في غالبية التعيينات لم يعط الأولوية للعونيين (أو حتى كما يصور البعض لجبران باسيل) إنما لعاطفته، وهي نقطة قوة ميشال عون وضعفه. عيّن سهيل عبود في أعلى منصب قضائي رئيساً لمجلس القضاء الأعلى وهو القواتيّ الهوى الذي عطّل كل الطموحات العونية في القضاء، وعيّن جوزف عون قائداً للجيش، وهو رئيس الجمهورية الوحيد الذي مُنع من تعيين مدير عام لتلفزيون لبنان في إجراء يختصر حجم المحاصرة لهذا العهد: حتى هذا الإجراء السخيف وُجد من يعرقله ويمنع العهد من تحقيقه.

 

وإذ نعدّد أخطاء الرئيس عون، فإن أبرزها تعيينه وزراء ونواباً وقضاة وضباطاً وكبار الموظفين على أساس ثقته الشخصية وعلاقته المباشرة بهم، لا بناءً على تقارير أمنية ومالية ومقياس الشجاعة والكفاءة والاستعداد للمواجهة وتحمّل التبعات. تماماً كما أخطأ الاعتقاد بأن التدقيق الجنائي والنفط والمشاريع الحيوية الكبيرة يمكن أن تحلّ في حسابات الناس محل التنفيعات الصغيرة و«خرجيات» المرشحين لهم عشية كل انتخابات. كان ميشال عون متفائلاً دائماً، على نحو خاطئ، بعلاقة اللبنانيين مع الشأن العام؛ أولئك الذين يتفرجون عليه أو ينتقدونه حين يقول إن «الإبراء مستحيل» ثم يسألون أين أصبح الإبراء المستحيل حين يتصالح مع تيار المستقبل! الذين يتفرجون عليه أو ينتقدونه حين يخوض معركة بناء معامل الكهرباء، ثم يسألون أين هي الكهرباء حين تنقطع عن منازلهم بالكامل! الذين ينتقدون غادة عون ويسخرون منها حين تخوض معركة النافعة، ثم يسألون لماذا لا يوجد فاسد واحد في السجن! الذين يستهزئون من حديث الوزير عن شبكات الصرف الصحي، ثم يسألون لماذا تحاصرهم الكوليرا! الذين يشمتون حين تعلق شركة توتال عملها قبل ثلاث سنوات، ثم يسألون لماذا وكيف حصل الانهيار المالي!

هذا كله قبل 17 تشرين. بعده، لم يعد مطروحاً من قريب أو بعيد الحديث عن إنجازات تقليدية. ربما كان يمكن لميشال عون أن يكون قبل 17 تشرين أفضل مما كان بكثير. أما بعد 17 تشرين، فقد كان أفضل بكثير مما يمكن لأي شخص أن يكون. ما فعله قبل 17 تشرين، في الإدارة والمتابعة والإنجاز، كان عاديّاً؛ أما ما فعله بعد 17 تشرين، في الصمود السياسي والتماسك والثبات، فكان أكثر من عادي بكثير. بعد 17 تشرين، تعطل البلد بالكامل ولم يعد النقاش نقاش إصلاح أو تغيير أو تحسين أو إنجاز، إنما باتت المعركة استهدافاً سياسياً مباشراً لا علاقة له من قريب أو بعيد ببناء الدولة أو إصلاحها. كان هناك بعد 17 تشرين، ميشال عون وتياره اللذان يفترض كسرهما.

 

هل كان يمكن لأيّ شخصية سياسية أن تواجه ما واجهه عون في السنوات الثلاث الماضية: من تحريض إعلامي متواصل 24 على 24 عبر أكثر من سبعين وسيلة إعلامية. إلى العمل الاستخباراتي النوعي للأجهزة الأمنية الخارجية الأميركية والألمانية والإسرائيلية والخليجية والمحلية (من استخبارات الجيش في عهد منصور إلى قوى الأمن الداخلي)، إلى التصويب السياسي المركّز من الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل وتيار المستقبل والجماعة الإسلامية وأسامة سعد وأنطون الصحناوي ونجاح واكيم وقوميّي أسعد حردان والحزب الشيوعي والقوات والكتائب والمردة والوطنيين الأحرار وميريام سكاف وفريد هيكل الخازن ونعمة افرام وآل المر وميشال معوض وبطرس حرب وأشرف ريفي، وكل من تعاطى السياسة يوماً في لبنان من محسن دلول إلى إدمون رزق اللذين استحضرا أخيراً لاتهام عون بالمسؤولية عن اغتيال الرئيس رينيه معوض… إلى جمعيات النفاق التي انتقلت، بتمويل أميركي – أوروبي – خليجي مشترك، من العمل الاجتماعي المفترض إلى العمل السياسي المباشر تحت لافتة واحدة هي شيطنة العونيين وتصويرهم كالمسؤولين المباشرين عن كل الكوارث السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان والعالم. إلى سلاح العقوبات، الأميركية والأوروبية، التي لم تهدد جبران باسيل فقط، بل كل رجل أعمال مقرب من العونيين يخشى على أمواله أو أعماله في لبنان والخارج وكل طبيب ومهندس وفنان، ما اضطر هؤلاء إلى التشهير بميشال عون والعونيين للحفاظ على مصالحهم… إلى المال الانتخابي الذي تدفق على نحو استثنائي من الداخل والخارج لإنهاء العونيين.

لا بدّ من العودة إلى من سبق تعدادهم، وتخيّلهم يتقدمون صفاً عسكرياً تلو الآخر بمدفعية ثقيلة، لقصف قصر بعبدا. يومياً، عشرات المرات: الإعلام، تليه أجهزة الاستخبارات، تليها الأحزاب والقوى والشخصيات بكل تناقضاتها، ثم الجمعيات، ففوج المهرجين والفنانين و«كراكوزات» الإعلام، يليهم رجال الأعمال. 24 ساعة في اليوم، 365 يوماً في السنة. صار العونيون مسؤولين عن الانهيار المالي؛ مدانون إذا جددوا لرياض سلامة، وكذلك إذا تظاهروا ضده أو طالبوا بتنحيته. وهم المسؤولون عن انفجار المرفأ، وعن اندلاع الحرائق، وتفشي كورونا. تضافرت جهود هائلة، محلية وخارجية، لتوجيه الضربة القاضية لهذا الجزينيّ ابن حارة حريك الذي يُصدق نفسه؛ وكانت كل تقديراتهم بأنه لن يخرج من القصر بأكثر من ثلاثة إلى أربعة نواب، وإذا به يخرج بواحد وعشرين نائباً. آزره ناسه، تضامنوا معه وحموه ومنعوا إسقاطه؛ تراجيديا عاطفية لن تفهمها شركات الإحصاء وعقول التآمر في السفارات ونفسية الموظفين في الجمعيات. ميشال عون هو الحالة الشعبية؛ قد لا يكون هو نفسه استثنائياً، لكن «الحالة العونية» استثنائية. هذا الدفق الشعبيّ الذي لا ينضب، من دون عقيدة تجمعه أو مال وخدمات تحفزه. عصبٌ مشدود مؤثر لا يطلبه يوماً زعيمه إلا يلبّيه، مهما اشتدت صعوبة الظرف.

 

كل معارك ميشال عون في كفة، والسنوات الثلاث الأخيرة في كفة أخرى. تراجيديا سياسية خيالية خرج منها بأكبر تكتل نيابي في تاريخ الجمهورية. من تخيّل الجيوش الخمسة تقصف بعبدا طوال السنوات الثلاث الماضية، لا بد من أن يتخيّله قبل بضعة أيام جالساً بكامل كرامته، ليرفع السماعة في الموعد المحدد، ويجيب الرئيس الأميركي بندية مطلقة. كان يقول لنفسه قبل الاتصال وبعده: لقد فعلوا كل ما يمكن وما لا يمكن تخيّله لأوّقع على تسليم بلدي، في ملف النازحين والنفط والتوطين والتطبيع والصواريخ الذكية والتآمر على حزب الله، ولم أوقّع! وها هم يعودون ليعترفوا بي كأمر واقع لا يمكن القفز فوقه. لماذا؟ لأنني أخذت الخيار الاستراتيجيّ الأصح، بالتفاهم مع المقاومة. ففي 17 تشرين، كان أمامه خياران: الخيار الذي اتخذه الحريري بالاستماع إلى «نصائح» و«توصيات» الأميركيين والفرنسيين وقد أدى به إلى إنهاء نفسه بنفسه، والخيار الذي اتخذه عون برسم سياسة مواجهة إلى جانب الحزب، بالاتكال على حد أدنى من الوعي الشعبي، وقد أدى إلى إنهاء ولايته رئيساً بتكتل نيابيّ أكبر من ذلك الذي دخل القصر به.

دخل ميشال عون القصر بتيار يثقله التكاسل والصراع العبثي المملّ بين التياريين على المناصب في الهيئات والإدارات العامة، محاطاً بالوصوليين الوقحين الذين استفادوا من انكفاء من لا يريدون شيئاً لأنفسهم ليتفرعنوا أكثر. اليوم، يغادر القصر مع تيار متماسك ممن لم يؤثر الإعلام المضلل على مزاجهم ولم تنفع محاولات شيطنتهم أو رشوتهم أو إخماد حماستهم؛ ومن دون تلك الحاشية الكبيرة من المنافقين التي تساقطت قبل ثلاث سنوات. يغادر حراً بالكامل من وزر التفاهمات التي كانت الممر الإجباريّ للوصول إلى بعبدا. يغادر محبوباً ممن كانوا من الأساس يحبونه، ومكروهاً ممن كانوا من الأساس يكرهونه. وهي معادلة الانقسام العمودي التي تحكم تقييم ميشال عون، حيث لا مكان للموضوعية أو الإنصاف؛ يكفي من يحبه القول إنه وضع كل الأساسات اللازمة لبناء دولة من التفاهمات الطائفية إلى النظام النسبي الانتخابي إلى التشريعات الكثيرة إلى اتفاقية الترسيم والتنقيب، أما من لا يحبه فلا يريد ترسيما ولا تنقيباً ولا نهوضاً اقتصادياً ولا استعادة لودائعه إن كان هذا كله سيتحقق بفضله، تماماً كما قال بوضوح إنه لا يريد كهرباء إذا كان الممر إليها بناء المعامل كما يريد العونيون، ولا يريد أوكسجيناً إذا كان من سوريا.

 

علاقة ميشال عون بالرجاء علاقة استثنائية؛ هو رجل لا يفقد الأمل. في إحدى الجلسات المصورة يقول إنه رجل حالم، لا يتخيل أن الإنسان يمكن أن يتوقف عن السعي لتحقيق أحلامه. وبالتالي حالم لا يمكنه التوقف عن السعي لتحقيق أحلامه، لا يفقد الأمل، يصل إلى السلطة في الثالثة والثمانين من عمره، ليواجه في عامه الرئاسي الثالث حصاراً خارجياً وداخلياً وانهياراً مفتعلاً وإعلاماً فاجراً ومنظومات فساد متجذرة تقنع الناس بأنه هو المنظومة. أن تقارب ميشال عون في الرابعة عشرة من عمرك أمر مختلف بالكامل عن مقاربتك له في الأربعين من عمرك. عون المعارض من باريس شيء، وعون رئيس التكتل شيء آخر. وعون رئيساً لسلطة لا ناقة له فيها ولا جمل حيث لا يمكنه تعيين مدير عام واحد أو مدقق مالي واحد في وزارة أو مصرف مركزي شيء ثالث؛ مشكلة كثيرين من محبيه ومبغضيه أنهم لا يحسنون إنصاف كل مرحلة ويخلطون الحابل بالنابل.

في الضيعة، على بعد بضعة أمتار من الدكان – المكتبة دكان آخر ورثت صاحبته عن زوجها صورة قديمة لميشال عون تعود إلى أواخر الثمانينيات ببزّة «الجنرال» وبريق الأحلام في عينيه؛ تخرجها وهي تشاهد مقابلته الأخيرة على المؤسسة اللبنانية للإرسال وتقول إنه هو هو، لم يتغيّر؛ لا هو تغيّر ولا خصومه تغيّروا ولا الناس؛ الناس ما زال بعضهم يحبه والبعض الآخر يكرهه. لكن من قال إن هذا أمر سيئ؟ من قال إن أولئك الذين لا يجدون من يكرههم، ويحبهم كل الناس، ليسوا هم الأسوأ على الإطلاق. يبقى أن تحدد من يحب ميشال عون ومن يكرهه لتحسن تقييمه: يحبه العونيون بما عرف عنهم كجمهور عاطفيّ وعفويّ لم يستفد من مغانم السلطة و… حزب الله. ويكرهه الاشتراكي وأمل والكتائب والقوات ومجمل السفارات والإعلام المموّل من الخارج والعاملون في المنظمات والجمعيات التي تستثمر منذ عشر سنوات في مأساة النازحين. هذا فخر لميشال عون أم مهانة؟