Site icon IMLebanon

مسار من الفشل.. وإلقاء المسؤولية على الآخرين

 

 

غريب أمر بعض السياسيين، المستغربين هذا الخروج الإحتفالي المفتعل للعماد ميشال عون من قصر بعبدا، عشية إنتهاء ولايته الرئاسية، والخطاب الخارج عن الأصول واللياقات والأعراف المعمول بها في مثل هذه المناسبات.

ويبدو أن البعض تناسى طبيعة ذهنية العسكري القادم إلى السياسة من ساحات المعارك الخاسرة، والذي كان في كل مرة يُطلق الشعارات الطائفية الرنانة، ليشد العصب حوله، ويحوّل هزائمه إلى إنتصارات وهمية.

خاض «حرب التحرير» ضد سوريا، وتوعد بتكسير «رأس حافظ الأسد»، وعند إشتداد القصف المتبادل على أحياء العاصمة، لم يتورع عن الكلام من نوع: أن بيروت تهدمت سبع مرات ولا مشكلة إذا تهدمت للمرة الثامنة!

وعندما فشلت حربه ضد حافظ الأسد، إرتدّ إلى شريكه في السلطة في المناطق المسيحية: القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع، رغم التفاهمات التي عقداها أواخر أيام عهد الرئيس أمين الجميل.

أطلق «حرب الإلغاء» ضد القوات اللبنانية، التي كانت عملياً حرب إلغاء للمجتمع المسيحي، وحرب تدمير للمناطق المسيحية التي بقيت بعيدة عن أوار الحرب الأهلية خمس عشرة سنة. سقط الآلاف من الشباب المسيحي من الجانبين، وإنتشر الخراب والدمار في المناطق المسيحية الممتدة من بيروت الشرقية حتى كسروان وجبيل والمتن والجرود العالية، وإستمرت المعارك بضعة أشهر دون أن يستطيع «الجنرال» كسر شوكة القوات، ولكن المسيحيين دفعوا الأثمان الغالية من أرواحهم وممتلكاتهم، وهجرة النخب والعائلات برمتها، والتي عُرفت لاحقاً بالهجرة المسيحية الثانية، على إعتبار أن الأولى كانت في بدايات سنوات الحرب الأهلية.

ولم تكن معارك «المتمرد» في قصر بعبدا السياسية أفضل من العسكرية.

عارض ذهاب النواب إلى مؤتمر الطائف للمصالحة الوطنية، والذي أنهى الحرب البغيضة، وأسس لدستور الجمهورية الثانية في عهد الإستقلال. وعندما أعلن النواب عن التوصل إلى إتفاق الطائف بادر عون إلى نسف وإحراق منازل النواب المسيحيين في مناطق سيطرته، مهدداً سلامة نسائهم وأطفالهم، ومانعاً النواب من العودة إلى بيوتهم.

خاض معركة إجهاض إتفاق الطائف بإسم المسيحيين، ولكن مباركة بكركي وموافقة القوات والكتائب على الميثاق الوطني الجديد، أفشلا معركته، رغم الحملة الشعواء التي شنها على البطريركية المارونية، وتعريض البطريرك التاريخي مار بطرس صفير للإهانة، ولمواقف لا علاقة لها بالحد الأدنى من الإيمان والممارسات المسيحية.

ثالث المعارك السياسية الخاسرة كانت محاربة إنتخاب رئيس الجمهورية إلياس الهراوي، وإنهاء الشغور الرئاسي، ولكن صاحب شعار « يا شعب لبنان العظيم»، تمرد على قرار الشرعية الدستورية، وإحتل القصر الرئاسي في بعبدا، رافضاً الإعتراف بالسلطة التي إنبثقت عن إتفاق ودستور الطائف. عاند «الجنرال»، كعادته، في التجاوب مع كل المحاولات التي بذلها وسطاء عرب، مثل الأخضر الإبراهيمي، ورئيس لجنة وزراء الخارجية العرب السباعية الشيخ صباح الحمد، الذي تولى إمارة الكويت لاحقاً، فضلاً عن الفرص التي أتاحها سفراء دول كبرى عاملين في بيروت.

أدى الرفض العنيد لعون لمساعي الوسطاء الديبلوماسيين إلى اللجوء إلى القوة العسكرية لحماية مقتضيات السلم الأهلي، فكانت معركة ١٣ تشرين الأول ١٩٩٠ الشهيرة، التي هرب خلالها العماد عون إلى السفارة الفرنسية، تاركاً عائلته في دوامة قصف وإجتياح قصر بعبدا. فكانت تلك ثالث معاركه العسكرية الخاسرة، والرابعة سياسياً.

مسلسل الإخفاقات السياسية إستمر مع وصول «الجنرال» إلى بعبدا. لن نخوض في ملابسات التعطيل مع حزب الله، ولا التحالفات المصلحجية والإنتهازية مع القوات، والتي تحتاج إلى معالجة أخرى. ولكن لا بد من التوقف هنا عند نقطة مركزية مفادها أن تأييد حزب الله لعون سنتين ونصف من التعطيل للجلسات الإنتخابية، وسنة من التحالف المستجد والمُريب مع القوات اللبنانية، لم تكن قادرة على إيصال رئيس التيار إلى بعبدا. وحده تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري إستطاع فتح أبواب القصر الرئاسي أمام عون وذلك خلال إسبوعين من إعلان تأييده لإنتخابه رئيساً، بحجة تحقيق إجماع مسيحي حوله.

تخلى عون وباسيل بسرعة عن ورقة الإتفاق مع القوات، ثم ما لبثا أن تركا الحريري في منتصف الولاية، بعد إستنزافه بتسلطهما على مسار القرارات في الحكومة، ورغم كل ما قدمه من تنازلات، وذلك في محاولة مكشوفة لتحميله مسؤولية فشل العهد في تحقيق أي إنجاز في نصف الولاية الأولى.

ولكن أساليب الإنكار والتنكر للواقع، والهروب إلى الأمام، وما بينها من تسلط «صهر العهد» على مقدرات السلطة، وبروز أبشع أنواع الفساد في الحكم، وسوء الإدارة للملفات الحساسة، وفي مقدمتها هدر وسرقات الكهرباء، وصفقات السدود والبواخر التركية، والمشاريع الملتبسة الأخرى، أدت إلى حصول الإنهيارات المتوالية ووصول البلد إلى الإفلاس، وإنزلاق الشعب إلى جهنم.

وعوض الإسراع في تشكيل الحكومات القادرة على وضع حد للإنهيارات، والعمل على إنقاذ البلد مما يتخبط فيه من كوارث وأزمات، بقيت سياسات التسلط والتنكر والإنكار هي السائدة في بعبدا برعاية «الوصي على الرئاسة»، الأمر الذي أدّى إلى دوامة المآسي التي حولت حياة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين إلى حجيم جهنمي لا يُطاق، وراكمت الفشل فوق الآخر، خاصة بعد وقوع إنفجار المرفأ الزلزالي، والذي تسبب بالهجرة المسيحية الثالثة، حيث تُقدر بعض الإحصاءات خروج أكثر من مائة ألف عائلة مسيحية إلى بلاد الإنتشار في العام الأول الذي أعقب الإنفجار المدمر .

على ضوء هذه الوقائع وما تحمله من خلفيات في تجربة العماد عون العسكرية والسياسية، يصبح من السهولة بمكان إستيعاب مضمون الخطاب الوداعي، والذي لم يخرج عن سياق الخطاب السياسي الذي إعتمده الجنرال منذ بدأ نشاطه السياسي فور تكليفه ترؤس الحكومة العسكرية عام ١٩٨٨، حيث كان دائماً يلقي بمسؤولية فشله السياسي والعسكري على الآخرين، الذين يعتبرهم إخوان الشياطين، وهو ملاك الجمهورية الوحيد!

من هنا تنتفي الحاجة للخوض في النقاش المحتدم حول وضع الحكومة المستقيلة حُكماً بعد الإنتخابات النيابية، وعدم جدوى توقيع رئيس الجمهورية على الإستقالة، لأن العرف يقضي بصدور المراسيم الثلاثة: قبول الإستقالة، والتكليف، وتشكيل الحكومة العتيدة دفعة واحدة، أما ما عدا ذلك فيبقى لزوم ما لا يلزم، وهدفه شد العصب في الشارع، تعويضاً عن الخسائر السياسية الفادحة التي لحقت بالتيار، مؤسسه ورئيسه الحالي، خلال وجود عون في بعبدا.

أما الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيبقى في الأرض!