داخل الأوساط القريبة من الرئيس ميشال عون، هناك مَن يقول إنّ الرجل أخطأ التصرُّف في الأيام الأخيرة من ولايته، فانسحب من موقعه تاركاً إيّاه للفراغ الذي لا نهاية ظاهرة له، ولتفرُّد رئيس الحكومة والثنائي الشيعي بالسلطة، ومفسحاً المجال أمام فوضى دستورية عارمة.
أصحاب هذا الرأي كانوا يعتقدون أنّ عون كان يتحصَّن بالاجتهادات الدستورية طوال أشهر، تحوُّطاً لاحتمال انتهاء ولايته في ظلّ حكومة تصريف أعمال. ومن هذه الاجتهادات، أنّ رئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور قادر دستورياً على الاحتفاظ استثنائياً بموقعه، ليدير المرفق العام ضمن مفهوم تصريف الأعمال، لأنّ مجلس الوزراء (لا الحكومة) الذي ينصّ الدستور على تولّيه صلاحيات الرئاسة بالوكالة ليس قائماً.
ولذلك، فوجئ أصحاب هذا الرأي بإعلان عون، قبل أيام قليلة من نهاية ولايته، أنّه سيخلي موقعه في لحظة انتهاء الولاية. فما الذي حصل ليتخذ هذا الموقف؟
ثمة مَن يقول إنّ الرجل تعرَّض لضغوط مختلفة، داخلية وخارجية، منعته من القيام بأي مغامرة، وأبرزها رأي حليفه «حزب الله»، القائل إنّ الحكومة المستقيلة لها الحقّ في ممارسة صلاحيات الرئاسة، لتسيير الأمور الأساسية. كما أنّ غالبية المراجع الدستورية الأساسية في البلد مالت إلى هذا التفسير، ما جعل عون عاجزاً عن اتخاذ خيار آخر.
فإذا أصرَّ عون على موقفه، وتشبَّث بالموقع خلافاً لإرادة الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، فإنّه سيتحوَّل متمرّداً في بعبدا، للمرة الثانية في تاريخه، أو شخصاً يحتل الموقع بشكل غير شرعي، ما يدفع إلى إجراءات تؤدي إلى عزله وإخلاء الموقع بالقوة.
طبعاً، لا يمكن أن تُترك الأمور لتصل إلى هذا الحدّ. وفي صريح العبارة، كان يكفي عون أن يحظى بتأييد «الحزب» للتمسك باجتهاداته الدستورية والبقاء في بعبدا. وفي هذه الحال، لن يكون صعباً حصوله على تغطية المرجعيات الدينية المسيحية الخائفة من الفراغ في الموقع. فهل كان عون يعتقد أنّه سيحصل على ضوء أخضر من «الحزب» بالبقاء في بعبدا حتى انتخاب رئيس جديد، لكنه خُذل؟
بعدما أصبحت الحكومة في وضعية المستقيلة، على أثر انتخاب مجلس نيابي جديد في ربيع 2022، دخل عون وميقاتي في منازلة خفيّة: لمن ستكون الغلبة في الأشهر الأخيرة من العهد؟ وكان عون يعتقد أنّه إذا تشدَّد في شروطه، فإنّ «حزب الله» سيدعمه ولن يتيح للرئيس نجيب ميقاتي أن «يكسره» في هذه المواجهة، على رغم تمتعه بدعم الرئيس نبيه بري.
وفي المقابل، راهن ميقاتي على أنّه سيربح المعركة إذا صمد، لأنّ عامل الوقت سيرغم عون على الخروج من اللعبة تلقائياً عند حلول موعد 31 تشرين الأول 2022. ولكن، في المقابل، لا أحد قادر على إخراج ميقاتي من السرايا أو انتزاع صفته كرئيس للحكومة، ولو مستقيلة.
كما كان عون يعتقد أنّ «الحزب» لن يقف في مواجهة جبران باسيل، حليفه المسيحي، وأنّه سيتراجع عن دعم سليمان فرنجية بسبب عدم قدرته على تأمين التغطية المسيحية الكافية. كما أنّ «الحزب» يفضّل الحليف المسيحي الأقرب، باسيل، على قائد الجيش «التوافقي» العماد جوزف عون.
ولكن، حتى الآن، تبيَّن أنّ رهان ميقاتي كان أكثر واقعية، وأنّ «حزب الله» ربما يتبنّى في ملف الرئاسة خيارات لا يعرفها عون، وأنّها تتجاوز الرئاسة إلى ما هو أبعد منها بكثير. وعلى الأرجح، تبيّن أنّ «الحزب» هو اليوم في صدد استخدام ملف الرئاسة ورقة صغيرة ضمن سلّة متكاملة من الأوراق، أي كجزء من تسوية يُفترض أن تشمل الكثير من أمور البلد.
وثمة مَن يعتقد أنّ قدرة عون على تغيير هذا الواقع صارت اليوم محدودة، لأنّ «الحزب» ربما لم يعد اليوم يحتاج إلى «التيار الوطني الحر» بمقدار ما احتاج إليه سابقاً، وهو قادر على ابتكار مخرج معين من الشكوى المسيحية في مسألة الشراكة في السلطة.
فـ»الحزب» ربما حصل على تغطية خارجية تعوّضه جزءاً كبيراً من التغطية الداخلية، والمسيحية تحديداً، التي لطالما احتاج إليها، خصوصاً بعدما أظهر حسن تعاطيه مع المتطلبات الإقليمية والدولية، عندما وافق على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بسهولة. وهو يمكن أن يتقاضى الثمن داخلياً بغض النظر على مقدار السلطة التي يتمتع بها. وفي الفترة الأخيرة، سُمِع في أوساط «الحزب» مَن يقول إنّه لم يعد يحتاج كثيراً إلى تغطية «التيار».
ربما يبحث عون عن مخرج لباسيل من المأزق. لكن المأزق الحقيقي ليس هنا. إنّه ذاك الذي اقتيد إليه المسيحيون بوصول الرئاسة والمناصب المسيحية الأخرى إلى حال يجري فيه استضعافهم لاقتلاعهم، كما يقول البطريرك مار بشارة الراعي.
وندم عون الحقيقي ليس مغادرة القصر، لأنّ خيار بقائه هناك لم يكن واقعياً. إنّه على الأرجح جعل موقع الرئاسة وسائر المواقع المسيحية جزءاً من لعبة الشطرنج بين القوى والطوائف، مقابل الوصول إلى الكرسي. وهذا النوع من الندم هو، كحروب التحرير والإلغاء وسواها، لا ينفع ولا شفاء منه.