Site icon IMLebanon

إنّه عقلٌ مريض!

 

حتّى اللحظة، ليس أمام اللبنانيين سوى المبادرة الفرنسية، وكل ما عدا ذلك لا يتجاوز التكهّنات السياسية غير المرتكزة إلى أي معطيات جدّية. لا بل على العكس، وُلدت المبادرة المذكورة في لحظة فراغ سياسي، معطوف على مأساة إنفجار مرفأ بيروت الذي أتى بعد تقهقر بنيان الهيكل الإقتصادي والمالي اللبناني وتتالي الإنهيارات!

 

صحيحٌ أنه قد يكون لباريس حساباتها السياسية والجيوسياسية والإقتصادية والنفطية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وهو أمر مفهوم في إحتساب مصالح الدول والأدوار التي تؤدّيها خارج حدودها؛ ولكن الصحيح أيضاً أنّ لبنان بأمسّ الحاجة إلى العون الفرنسي بعدما أوصله عون اللبناني إلى الحضيض، وضرب كلّ الآمال الشعبية بالتغيير والإصلاح، مُثبتاً بالتجربة والبرهان أنّ الشعارات التي رفعها طوال سنوات من منبر الرابية قد سقطت على بوابة قصر بعبدا.

 

كم من صحافي نهره، أو مراسل طرده، أو مؤسسة إعلاميّة لاحقها. الهدف كان الدفاع عن عناوين برنامجه السياسي الذي بدّله بالعمق وِفقاً للمصالح الفئوية، فتعرّض لإعلاميين ناقشوه في مضمونها المتغيّر، أو سألوه سؤالاً لم يتلاءم مع مزاجه السياسي أو الشخصي في تلك اللحظة.

 

العناوين التي خضعت للتبديل الجذري ليست تفصيلية، من وصف سلاح “حزب الله” بأنّه سلاح “إرهابي” في الكتاب البرتقالي (الذي سُحب بدوره من الأسواق) إلى تحالف استراتيجي مع المقاومة؛ ومن الإنتظار في مقهى الكونغرس للضغط بهدف إقرار قانون محاسبة سوريا، إلى زيارة دمشق حاملاً الوعد بإعادة المفقودين والمعتقلين في السجون السورية، فإذا به يعود خالي الوفاض.

 

مهما يكن من أمر، فإنّ ما حصل قد حصل. المهمّ الآن أنّ السياسات العونية أوصلت البلاد إلى الواقع الراهن، ليس لأنّ القوى السياسية الأخرى ليست مسؤولة (ولو بمستويات متفاوتة)، بل لأنّ تلك السياسات المصلحية ساهمت في إرساء أعراف جديدة في الممارسة السياسية والدستورية، ليس أقلّها التعطيل وِفقاً للمصالح والأهواء. ولكن الأخطر من كل هذا الأداء، على فداحته، هو الدور الذي أدّته تلك السياسات في إعادة تشكيل موازين القوى الداخلية وِفقاً لاعتبارات جديدة، بحيث قامت بتغذيتها أطراف إقليمية لها مشاريعها وأجنداتها وحساباتها واعتباراتها، ممّا كرّس مفهوم لبنان- الساحة مُجدّداً، وجعل الدولة الطرف الأضعف.

 

لقد دفع اللبنانيون الأثمان الباهظة نتيجة ضعف الدولة في الكثير من المحطّات، وإعادة تكرار هذه التجربة من شأنها إعادة إنتاج المآسي، ولو بأشكال مُتجدّدة أو بعناوين ومسمّيات مختلفة. المشكلة أنّ مشروع الدولة بالنسبة لبعض القوى السياسية يتمّ إستحضاره غبّ الطلب. عندما يضطرّ أكثر الأطراف قوة للجوء إلى الدولة، هذا يعني أن لا مفرّ من مشروع الدولة.

 

وإذا كانت ثمّة خلافات على موقع الدولة قياساً إلى موازين القوى (وهو من المفترض ألا يكون مطروحاً أساساً، في حال كانت الدولة تحتكر وظائفها السيادية الأساسية، كحصريّة السلاح والدفاع عن أراضيها على سبيل المثال)، فالخلاف الأكبر يتّصلُ بهوية الدولة، وطبيعة تكوينها ودورها وطريقة عمل مؤسساتها وعلاقاتها الخارجيّة، وبقدرتها على حماية لبنان إزاء المخاطر الخارجيّة، وبتحمّلها مسؤوليّة منع استجرار الصراعات الإقليمية أو الدولية إلى الداخل.

 

لا يزال الطريق طويلاً جداً أمام قيام الدولة في لبنان، لا سيّما مع إستعادة عناوين وشعارات الحرب الأهليّة اللبنانية، وفي طليعتها التقسيم والفدرالية، وسواها من العناوين التي كانت ولا تزال محطّ خلافات عميقة بين مختلف المكونات السياسية.

 

إذا كان البعض في لبنان يعتبر تفجير المرفأ تتمة لانفجاري هيروشيما وناكازاكي في إطار “خطّة لاستهداف المسيحيين” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 إلى يومنا هذا، لاقتلاعهم من مدن اليابان وضواحيها وجزر المحيط الهادئ، وصولاً إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط؛ فهل سنتوقّع قيام الدولة قريباً في ظلّ طغيان هذا العقل المريض؟