IMLebanon

الثقافة الدستوريّة المفقودة!

 

لم يكن تذكير رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون للبنانيين بالقسم الدستوري الذي أدلى به في جلسة إنتخابه موفقاً. الاختيار ليس موفقاً بالشكل من الأساس، إلا أنه لم يكن موفقاً في التوقيت كذلك. فالدستور وحمايته هما آخر إهتمامات الرئيس منذ ما قبل وصوله إلى قصر بعبدا.

 

الدستور هو القانون الأسمى في الجمهوريّة وهو يعلو فوق سائر القوانين، لا بل تُقيّم القوانين وفق دستوريتها وتُبطل إذا كانت غير دستوريّة. هذا في الديموقراطيّات التي تحترم نفسها، وليس في الديموقراطيّات التي تشوهها الأطراف السياسيّة بممارساتها الخارجة عن القانون والدستور. إنها القوى ذاتها التي لا تتوانى عن اختراع مصطلحات براقة لتستخدمها في خطاباتها السياسيّة والشعبويّة. على سبيل المثال، الميثاقيّة التي استخدمت مراراً وتكراراً في المحطات المختلفة لغايات ومصالح فئويّة خاصة.

 

ولكن الدستور ثقافة قبل كل شيء. كان فؤاد شهاب يسميه: “الكتاب”. كان مترفعاً ومنزهاً عن المصالح السياسيّة المباشرة. لم يطلب لنفسه شيئاً. ترك الرئاسة وهو في أوج قوته حتى جاءته المناشدة للعودة عن استقالته. رفض تمديد ولايته الرئاسيّة رغم تمتعه بالأكثريّة النيابيّة وزيادة… هذه الثقافة الدستوريّة التي نفتقدها في أيامنا الراهنة والتي يُمارس عكسها.

 

نظريّة التأليف قبل التكليف ستتكرر مرة جديدة في هذا العهد. عمليّاً، ما سيجري هو إتصالات فرعيّة بين الكتل البرلمانيّة الكبرى والمؤثرة، ومنها من سيعود إلى العواصم الخارجيّة المرابطة معها للرأي والمشورة طبعاً، وعندما يطلع الدخان الأبيض، تستدعى الكتل إلى القصر الجمهوري للادلاء باسم المرشح لرئاسة الوزراء.

 

هذا يعني، بشكل أو بآخر، إفراغ المحتوى الدستوري للاستشارات النيابيّة الملزمة (بإجرائها وليس بنتائجها فقط)، وتحويلها إلى مجرد يوم فولكلوري طويل في قصر بعبدا معروفة نتائجه سلفاً.

 

إلى متى سيتواصل إلقاء القبض على المؤسسات والدستور وتسخيرهما لمصالح القوى السياسيّة والأطراف الإقليميّة التي تقف خلفها؟ لماذا يجب أن يرتبط تشكيل الحكومة اللبنانيّة بالانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة؟ ولماذا يقبل رئيس الجمهوريّة، وهو “الرئيس القوي” على حد وصف البعض، بأن يكون تأليف الحكومة ورقة تفاوضيّة لخدمة هذا المحور أو ذاك؟

 

لبنان يسير نحو الهاوية، هذا أمر محتوم. الخلاص تكون بدايته من خلال استعادة الثقة بهدف تدفق الأموال مجدداً وهو المسار الوحيد الذي يمكن من خلاله التأمل بأن تستعيد العملة الوطنيّة القليل من قدرتها الشرائيّة التي تآكلت بشكل غير مسبوق وجعلت نحو خمسين بالمئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر. لقد أصبح الطموح الأقصى عند المواطن اللبناني تأمين قوت أسرته وأولاده ومواصلة العيش بالحد الأدنى من الكرامة الانسانيّة التي تحطمت بفعل الانكسارات المتلاحقة على الصعد الانسانيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة.

 

الخطوات المطلوبة من دون إبطاء تتمثل بتشكيل حكومة تحظى بالثقة المحليّة والعربيّة والدوليّة، يتمكن لبنان من خلالها من إعادة فتح نوافذه على العالم بعد أن أغلقتها سياسات التقوقع والفساد والإفساد، يليها إطلاق أوسع عمليّة إصلاحيّة بما يتيح للشركاء الدوليين بقيادة فرنسا تقديم الدعم إلى لبنان بالتوازي مع إعادة فتح النقاش الجدي والمسؤول مع صندوق النقد الدولي الذي أصبح المنفذ الوحيد المتوفر أمام السلطات اللبنانيّة لإخراج البلاد من أزماتها المتفاقمة ووضع الحلول على سكك الانقاذ المنتظر.

 

في أكثر الأوقات حراجة، يحتاج لبنان إلى رجال دولة يعرفون كيف يتولون قيادته في أوقات الأزمات، فأين هؤلاء؟ أين الشخصيّات الكبيرة التي كانت تتولى الحكم في لبنان في العقود الماضية؟ المطلوب الترفع والخروج من المسارات المصلحيّة والفئويّة الرخيصة.