ثمّة مهارات سياسيّة لدى بعض المسؤولين اللبنانيين لو تسنّى لميكيافيللي أن يعايشها لكان أعاد صياغة كتابه الأكثر شهرة على الإطلاق بعنوان: “الأمير”. وبالمناسبة، يتضمّن هذا الكتاب الكثير من الأفكار والقضايا التي تتجاوز تلك العبارة الشهيرة التي إختزلت مضمونه وهي: “الغاية تبرّر الوسيلة”. ولكن، في الحالة اللبنانيّة، تعود هذه العبارة لتفرض نفسها بقوّة.
إلا أن ما يُمارس من قبل بعض رموز السلطة السياسيّة القابضة على الحكم، بدءاً من رئاسة الجمهوريّة، لا يعدو كونه مواصلة لسياسة الالتفاف على الدستور وتحطيماً للقسَم الذي يُنادى به أمام الهيئة العامة لمجلس النواب بحضور أعضاء السلك الديبلوماسي العربي والغربي ووسائل الاعلام وشاشات التلفزة.
بمعزل عن تصنيف الرئيس ميشال عون للمجلس النيابي الذي انتخبه بأنه “غير شرعي” قبل انتخابه، وتحوّله إلى مجلس شرعي بمجرد إنتخابه؛ ثمة أعراف جديدة كرّسها ويكرّسها رئيس الجمهوريّة لم يسبق أن حصلت حتى في أكثر العهود سوءاً (عهد إميل لحود نموذج). ليست بدعة التكليف قبل التأليف سوى واحدة من عشرات الأمثلة التي يمكن سوقها على الانتهاكات الدستوريّة المتواصلة.
المثال الآخر هو دعوة الكتل البرلمانيّة للتشاور في بعبدا بين الحين والآخر كبدعة فولكلوريّة تتوالى فصولها عند كل منعطف للايحاء بأن هناك نقاشات وطنيّة تجرى على مختلف الصعد، بينما هي لا تعدو كونها حركة استعراضيّة لالتقاط الصور وتفعيل الحركة في القصر الجمهوري الذي يعيش حالة عزلة لم يكسرها سوى تدفق الوفود المتضامنة مع لبنان بعد انفجار المرفأ!
الحوار دائماً ضروري خصوصاً في بلد مثل لبنان يقوم على التعدديّة والتنوع كقاعدة أساسيّة للعيش المشترك، ولكن أليس من الأجدى تفعيل المؤسسات الدستوريّة بدل تجاوزها وتهميشها وتحويلها إلى مجرّد إطار هيكلي لتنفيذ التفاهمات السياسيّة التي تجري خارجه؟ هل يجوز أن يمتنع رئيس الجمهوريّة لأسابيع عن الدعوة للاستشارات النيابيّة الملزمة (بنتائجها وليس فقط بإجرائها) بعد اعتذار الرئيس المكلف مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة في ظل ظروف إقتصاديّة واجتماعيّة مأسوية؟
في إطار ما أسماه “مرصد الأزمة”، أعلن معهد عصام فارس في الجامعة الأميركيّة في بيروت أن “ثلثي العائلات اللبنانيّة تعاني من إنخفاض في دخلها مقارنة بالعام الماضي”. كما نشر نتائج استطلاع أجري في حزيران الفائت للمقيمين في لبنان تناول قلقهم لناحية عدم قدرتهم على تأمين الغذاء أو فقدوا وظائفهم نتيجة جائحة “كورونا” أو قبلها، فجاءت النتائج صاعقة، إذ وصلت النسب إلى خمسين بالمئة من اللبنانيين، و63 بالمئة من الفلسطينيين و75 بالمئة من السوريين!
إلى أين ستصل الأمور مع الرفع المتوقع للدعم عن المحروقات والأدوية والقمح؟ ألا تكفي نسب الفقر المرتفعة التي وصل إليها اللبنانيون في ظل هذا العهد وهي غير مسبوقة؟ ماذا عن هجرة الأدمغة وتفريغ لبنان من طاقاته خصوصاً الطاقات الشابة التي تملك قدرة التغيير والدفع نحو الأفضل في اتجاه الدولة المرتجاة التي لم تقم منذ مئة سنة بفعل الادارة السيئة وتضارب المصالح والولاءات للخارج؟
المطلوب من رئيس الجمهوريّة، اليوم قبل الغد، أن يوجه الدعوة للاستشارات النيابيّة الملزمة وأن يضع الكتل البرلمانيّة أمام مسؤولياتها لاختيار شخصيّة قادرة على أن تنال ثقة الداخل والخارج لوقف التدهور ووضع الخطط المطلوبة لإعادة البلاد إلى سكة النمو. في ظل غياب الثقة، تبقى كل الاجراءات المتخذة مصطنعة ومحدودة النتائج ولن تمنع الانهيار التام.
لقد كان إسقاط المبادرة الفرنسيّة ضرباً من الحماقة السياسيّة التي تلامس الخيانة الوطنيّة، حبذا لو يقولون لنا الآن، ما البديل؟