IMLebanon

عون «القوي» في جمهورية الضعف والاهتراء.. والسلاح!

 

أتحفنا الرئيس ميشال عون بتصريح شديد الرمزية وكان له وقع لا يمكن قياسه أو رصده، نظراً لما حمله من أبعاد استراتيجية حول وضع الدولة ومآلاتها وحكمها، فقال إنّ «الدولة الضعيفة يحكمها حتماً أقوياء ولكنهم لا يقيمون وزناً للدستور ويتجاهلون القوانين، فيزدادون قوة ويزداد ضعف الدولة».

 

من حيث التوصيف، لا شكّ بأنّ توصيف الرئيس عون دقيق وخاصة لحال الدولة في لبنان، فحكامها «أقوياء» متجذرون في التسلّط على مواقع الحكم، ويتميزون بخرق الدستور وتطويع القانون لمصالحهم الخاصة، فكان لا بدّ من أن تزداد الدولة ضعفاً ووهناً، ويزدادون قوة وغطرسة وإفساداً.

 

يداوي الناس وهو عليل

 

لكن شأن عون في هذا التصريح هو شأن من يداوي الناس وهو عليل، فمنذ عودته إلى لبنان اتبع سياسة تهدف في المقام الأول إلى تقويض الدستور تحت شعار الزعيم المسيحي القوي واستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو إذ يعيب على حكام لا يقيمون وزناً للدستور سلوكهم هذا، لكنه نسي عندما وقف في 17 آب 2009 وقال قولته الشهيرة لعيون صهري لا تتألف الحكومة، وعطّل فعلاً ولادة الحكومة أشهراً قبل أن يخضع الجميع للابتزاز ليأتي بالصهر الساقط في انتخابات البترون للمرة الثانية على التوالي، وزيراً، لتبدأ معه رحلة الإبحار في لُجج البواخر وخطط الإتيان بالكهرباء 24 ساعة متواصلة..

 

شعارات القوة.. ماذا أنتجت؟

 

يأخذ عون على الحكام في لبنان خرق الدستور، لكنه يتجاهل أنّه بعد أن ثبّت نفسه «الزعيم القوي» بين المسيحيين، عطّل مجلس النواب ليفرض نفسه رئيساً للجمهورية ببندقية المقاومة كما قال النائب المستقال نواف الموسوي في مجلس النواب، فوصل الرئيس القوي إلى سدّة رئاسة الجمهورية، كما أنّ حزبه «التيار الوطني الحر» برئاسة صهره (القوي) جبران باسيل، غيّر اسم كتلته النيابية من «تكتل الإصلاح والتغيير» إلى «لبنان القوي» لترسيخ مفهوم القوة الذي «بشّر» به عون على مدى العقود الماضية.

 

اجتياح المواقع بقوة الموقع

 

مارس عون وكتلته «قوّته» في المؤسسات الدستورية، فاختزل صلاحيات رئاسة الوزراء بفتاوى «جريصاتية» متتابعة، وغطى جبران (القوي) في السيطرة على المواقع والتعيينات باعتباره ممثل المسيحيين الأقوى، فاستحوذ على المواقع في مختلف الدوائر والمؤسسات، ولم يترك دائرة إلاّ واقتحمها، ليس في المناطق المسيحية فحسب، بل إنه استولى على المواقع في طرابلس فأجلى عنها أبناءها وطاردهم، ثمّ أحلّ مكانهم أزلامه في الكهرباء والتربية والاقتصاد، وفي عكار سيطر على الدوائر، حتى لم يبق لأهل عكار من غير أتباعه مكان يذكر في الدولة.

 

من تعييناتهم تعرفونهم

 

إستفاد عون وباسيل من معادلة القوة والضعف ليحقّقا من وصلا إليه من هيمنة وسيطرة واستحواذ، لأنّ من يمثل السنة خصوصاً كان ليّناً لدرجة العصر وكان متنازلاً لدرجة الانسحاق أمام «صديقه جبران» وهذه معادلة مخيفة وطبيعية في الوقت نفسه، لكنها بالتأكيد لم تكن مفيدة للبلد، لأنها جاءت بأمثال القاضية غادة عون، ومعها يمكن القول:«من تعييناتهم تعرفونهم».

 

نموذج غادة عون الرهيب في خرق القوانين وخوض المعارك السياسية وحتى الشخصية، وآخرها ما فعلته في ملاحقة السيدة هدى سلوم والموظفين الخمسة معها، مع التراجع عن ملاحقة آخرين لأسباب سياسية أعلنت عنها وسائل الإعلام، مما اضطر وزير الداخلية محمد فهمي للتدخل وخوض مواجهة مباشرة معها، هو نموذج مخيف فعلاً في مقاربة الشأن العام، لأنه تسبّب بكوارث في عالم القضاء وضرب قواعد العدالة.

 

قضاة عون كما اصطلح الإعلام على توصيفهم تنازعوا أمرهم بينهم، فخرج من بينهم القاضي بيتر جرمانوس ليكشف بعضاً من فصول الانقلابات والتباينات داخل البيت الواحد، وهو ما خرج على صفحات جرائد الممانعة ولم يكن سراً مكتوماً، ومن يستمع إلى جرمانوس اليوم يدرك أيّ مصيبة نحن فيها.

 

أين القوة في مواجهة السلاح؟

 

لكنّ قوة الرئيس بلغت ذروتها عندما سلّم بتولّي رئيس مجلس النواب نبيه بري عملية التفاوض حول ترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي، وهذا الملف هو في صلب صلاحياته الدستورية، فوقف على رصيف الانتظار السياسي ليترك له بري مسألة متابعة التفاوض وتشكيل الوفد المفاوِض، من دون أن يفهم أحد كيف لبري أن يمارس هذا الدور، إلاّ من باب أنّه أقوى من رئيس الجمهورية الذي يبدو أنّه بدأ يخسر في معادلات القوة.

 

ومن مظاهر قوة الرئيس العجيبة، غيابه الكامل عن انتهاك الدولة في بعلبك الهرمل بعد الاستعراضات المسلحة الواسعة النطاق، بالسلاح الفردي والمتوسط والصاروخي بحيث سقطت الدولة وغابت الشرعية، فتصرف عون كأنه لم يرَ ولم يسمع، وتجاهل هذا الخرق الهائل لسيادة الدولة من دون أن يكلّف نفسه حتى عناء الموقف ولو من باب رفع العتب.

 

اللافت أنّه مع دخول عهد «عون القوي» عاميه الأخيرين، بتنا نسمع من الجميع تقريباً، مواقفَ تؤكد أن الأمور وصلت إلى الطريق المسدود وأنّه ليس هناك حلول في الأفق مهما كانت «قوّة» الأفرقاء، لأنهم جميعاً ضعفاء تحت وطأة السلاح، فهناك القرار وكلّ شعارات القوة كانت وهمية ولا تزيد عن كونها وسيلة للدعاية السياسية والاستقطاب الانتخابي والتناحر الحزبي. إنّه إعلان اليأس من الرئيس القوي ومن هذه التجربة التي خلطت بين الشعارات المبدئية وأقصى درجات الانتهازية وتجاوز الثوابت وتناسي الحقائق.. والآن بعد أن مضى من العهد أكثر مما بقي، تتبدّد أسطورة عون وتتساقط صوره معلنة النهاية الأسوأ لأطول مغامرة سياسية كبّدت البلد الخسائر الأكبر والتي لم يشهدها منذ الاستقلال.

 

يستحق بجدارة عون لقب الرئيس الأكثر فشلاً في تاريخ لبنان.