أثار تأجيل الرئيس ميشال عون لاستشارات التكليف استغراباً واسعاً، بفعل عدم استناده إلى حيثيات واضحة وأسباب موجبة، خصوصاً انّ الرئيس سعد الحريري الذي كان سيُكلّف، كان قد ضَمَن تكليفه.
يمكن لرئيس الجمهورية ان يؤجِّل الاستشارات في حال تبيّن له انّ هذه الاستشارات لن تفضي إلى أي نتيجة عملية، بفعل غياب اي تصور لدى الكتل النيابية، حيال هوية الشخصية التي ستُكلّف لإدارة حكومة المرحلة. ولكن ان يأتي التأجيل من دون تعليل مقنع، ولا الارتكاز إلى أسباب موجبة حقيقية، فيعني انّ هذا التأجيل تمّ لاعتبارات تتصل بالمناكفات والحسابات السياسية، فيما كان رئيس الجمهورية بغنى عن كل ما أثارته هذه الخطوة من بلبلة سياسية وإعلامية، في لحظة وطنية كارثية بفعل الأزمة المالية، بخاصة، انّ مسار التكليف يختلف عن مسار التأليف، حيث انّ التكليف لا يعني الاتفاق على التأليف.
فلا يجوز ان ينام الحريري مكلّفاً وفجأة تُلغى الاستشارات، وكأنّ الهدف قلب المعطيات قطعاً للطريق على تكليفه، أو امتحان ردّة فعله، بجرّه إلى مسار من التنازلات والتسويات. وصحيح انّ الاستشارات تأجلّت ولم ترحّل، إلّا انّه من غير الجائز استخدام المؤسسات والاستحقاقات لتوجيه الرسائل السياسية، الأمر الذي يسيء إلى موقع رئاسة الجمهورية ودورها وصورتها. فكان يُفترض تحييد الخلاف السياسي بين باسيل والحريري عن الرئاسة الأولى، فضلاً عن انّ الرئيس عون هو من دعا إلى الاستشارات، وكانت الصورة عند لحظة دعوته ضبابية على هذا المستوى، قبل ان يعلن الحريري ترشيحه لهذا الموقع. كما انّ التأجيل من دون أسباب موجبة يشكّل تجاوزاً لإرادة الكتل، والخلاف لا يُحلّ بتأجيل التكليف، إنما بمشاورات التأليف.
فكان من مصلحة رئيس الجمهورية إبقاء الاستشارات في موعدها، ومن ثم ربط النزاع مع الرئيس المكلّف في التأليف، وهذا من حقه ربطاً بتوقيعه، ولكن من الواضح انّ باسيل أراد ان يوجّه للحريري ثلاث رسائل أساسية:
الرسالة الأولى، بأنّ التكليف من دون التشاور والتنسيق لا يمكن ان يمرّ بسلاسة. وما سبق التأجيل تمثّل برفض باسيل ان يلتقي شخصياً بالسيدة بهية الحريري، في موقف سياسي فحواه اللقاء يكون معه لا مع غيره وإلّا يتعامل معه بالمثل.
الرسالة الثانية، تهدف إلى حشره، بعدما كان أعلن رفضه تأجيل الاستشارات وتلميحه بالاعتذار، وكأنّه يقول بأنّ لا بديل عنه، فجاءته الرسالة لتقول له اعتذر والبديل جاهز.
الرسالة الثالثة، انّ المعبر للسرايا يكون في التعاون مع بعبدا لا حصر التعاون بعين التينة وكليمنصو.
وفي موازاة رسائل باسيل، حاولت بعض الأوساط ان تعزو التأجيل إلى غياب الميثاقية في التكليف مع تقاطع «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» على رفض تسمية الحريري، فيما الكلام عن الميثاقية غير صحيح لثلاثة اعتبارات أساسية:
الاعتبار الأول، عدم تسمية «القوات» للحريري ينبع من موقف سياسي لا طائفي، ويتعلّق بالأكثرية الحاكمة لا موقع رئاسة الحكومة، وقد عبرّت صراحة في أكثر من مناسبة، بأنّ لا إمكانية لإخراج لبنان من أزمته في ظلّ الأكثرية القائمة، وانّ الأولوية للانتخابات المبكّرة، وبالتالي لا يجوز إطلاقاً وضع موقف «القوات» تحت الخانة الطائفية.
الاعتبار الثاني، التقاطع بين «القوات» و»التيار» على رفض التسمية لم يحصل نتيجة اتفاق وتوافق مشترك، وهذا الجانب مهم جداً، إنما حصل لاعتبارات مختلفة تتعلق بكل فريق من الفريقين، وعلى رغم انّ النتيجة واحدة، إلّا انّ اختلاف المنطلقات يُبطل هذا التقاطع ومفاعيله.
الاعتبار الثالث، الميثاقية المطلوبة في التكليف هي سنّية بالدرجة الأولى، كون موقع رئاسة الحكومة هو سنّي، على غرار الميثاقية المسيحية في رئاسة الجمهورية، والشيعية في رئاسة المجلس النيابي، وبالتالي المطلوب عدم تجاوز الإرادة السنّية في التكليف، فيما التأجيل جاء خلافاً لهذه الإرادة بالذات، التي كانت أجمعت على شخص الحريري.
فلا يمكن مثلاً إقرار قانون جديد للانتخابات من دون الأخذ في الاعتبار الجانب الميثاقي لكل الطوائف، لأنّ انعكاساته تطال كل هذه الطوائف، وبالتالي التقاطع القواتي- العوني في هذا الجانب يمكن ان يفعل فعله لسببين: طبيعة الموضوع، والتقاطع الإيجابي على هدف واحد.
وتبعاً لما تقدّم، فالحديث عن الميثاقية في التكليف في غير محله إطلاقاً، لمجرّد انّ الأمر لم يُطرح من هذه الزاوية بتاتاً، فيما الخلفية الكامنة وراء إثارة هذه المسألة من قِبل فريق رئيس الجمهورية تهدف إلى دفع الحريري إلى الحوار مع باسيل، من أجل ان يكسر هذه الحلقة، معولين بذلك على انّ موقف «القوات» لن يتبدّل لارتباطه بالفريق الحاكم، ومخيّرين الحريري بين اللقاء مع باسيل او عدم التكليف مجدداً بعنوان ميثاقي، وبالتالي، هل ستشهد الفترة الفاصلة عن الموعد الجديد للاستشارات يوم الخميس 22 الحالي، لقاءً بين الحريري وباسيل، يكسر الجليد بينهما ويمهِّد لتفاهمات حيال المرحلة المقبلة ومن ضمنها الحكومة الحريرية الثالثة في عهد عون؟ وهل سينجح باسيل بجرّ الحريري إلى اجتماع ثنائي على غرار اجتماعه مع الرئيسين عون ونبيه بري؟
وهناك من يعتبر انّ العهد أراد من خلال تأجيل الاستشارات ان يمتحن الحريري، فإذا ندّد بالتأجيل وأعلن سحب اسمه من التداول الحكومي طيلة العهد الحالي، يكون العهد وفّر على نفسه فترة من التأليف، لن يتمكن إبّانها من الاتفاق مع الحريري. وفي حال وافق على التأجيل، فيعني انّ الحريري على استعداد لتدوير الزوايا ووضع الماء في نبيذه والتفاهم مع العهد وغيره، وصولاً إلى الحكومة العتيدة، بخاصة انّ العهد يريد الحريري بنسخته القديمة في حكومتي العهد الأولى والثانية، وليس بنسخته الجديدة في تحالفه مع بري وجنبلاط ضدّه.
ولكن، إن دلّ التأجيل على شيء، فإنّه أكّد المؤكّد على ثلاثة مستويات أساسية:
المستوى الأول، انّ هناك من لا يزال يمارس العمل السياسي، وكأنّ لا أزمة في البلاد.
المستوى الثاني، انّ من يربط النزاع في التكليف سيربط هذا النزاع في التأليف وفي كل عنوان وموضوع ومسألة، بدءاً من الكهرباء، وصولاً إلى المعابر.
المستوى الثالث، انّ الحكومة العتيدة لن تتمكن من إخراج لبنان من أزمته، وانّ الحريري سيضطر إلى تشكيلها بالتفاهم مع الفريق الحاكم، وانّ أقصى ما يمكن ان تكون عليه نسخة منقّحة عن الحكومة المستقيلة.
فالرئيس الحريري سيضع في جيبه الخميس المقبل مرسوم التكليف، ولكن مسار التأليف سينتظر نتائج الانتخابات الأميركية، التي لم تعد بعيدة، ليُبنى من بعدها على الشيء مقتضاه.