صحيحٌ أن الجيل الجديد، سواءً ذلك الذي ينمو على ضِفاف الثورة أو في قلبها، غالباً ما يرفض العودة إلى الماضي، مُصرّاً على التعميم وإلغاء القديم بكل قدمه؛ ولكن الصحيح كذلك هو أنّ في الماضي صفحات مضيئة في تاريخ لبنان، كتبتها شخصيّات كانت لها رؤيتها وفلسفتها ونشاطها السياسي وعملها الحثيث في إطار مشروع بناء الدولة.
ثمّة مقابلة تلفزيونيّة قديمة أجراها الإعلامي القديرعادل مالك على شاشة “تلفزيون لبنان”، مع ثلاثة من رجالات الدولة في لبنان، وهم: الرئيس الشهيد رشيد كرامي والمعلّم الشهيد كمال جنبلاط والمرحوم ريمون إده. لم يجد أيّ من القياديين الثلاثة حرجاً في المشاركة في ندوة تلفزيونيّة واحدة مع بعضهم البعض، بالرغم من أنّ كلاً منهم يستحقّ أن يُستضاف على حِدة. تجاوزوا الشكليّات التي تسيطر على معظم الأداء السياسي اليوم ودخلوا في عمق نقاش المواضيع الوطنية، وكان حواراً راقياً وجميلاً وهادئاً، عكس ثقافتهم وإلمامهم الواسع بالملفّات المطروحة قيد النقاش.
إنّ الدعوة موجّهة إلى جيل الشباب لمشاهدة هذه المقابلة، ولقراءة مواقف وتصريحات هؤلاء القادة، والدعوة إياها موصولة لبعض من يحتلّون المراكز المتقدّمة في الدولة اليوم، من الذين يعطّلون البلاد من أجل شكليّات سخيفة، أو أقلّه، يتذرّعون بها لتحقيق غاياتهم ومآربهم.
تصوّروا أنّ رئيس الجمهوريّة، المؤتمن على تطبيق الدستور، لا يجد حرجاً في لحظة سياسيّة واقتصادية شديدة الحراجة، بأن يؤخّر الدعوة إلى الإستشارات النيابيّة لأسابيع، من دون أي مسوّغ دستوري أو قانوني أو منطقي، ثم يتجرّأ على تأجيلها لأسبوع جديد، فقط لأنّ الأرقام دلّت على أنّ النتيجة لن تكون كما يريدها، وأنّها ستُفضي إلى تكليف الرئيس سعد الحريري من دون أن يكون قد تفاوض معه أو مع تيّاره مسبقاً!
نادرة هي المرّات التي شعر فيها اللبنانيون أنّ الرئيس ميشال عون قد لبس العباءة الوطنيّة فوق عباءة “التيار الوطني الحرّ”. ونادرة هي المرّات التي شعر فيها اللبنانيون فِعلاً أنّ الرئيس عون غادر قاعات “التيار” للدخول إلى ساحات الوطن. ثمّة رؤساء يضيق صدرهم في المساحة الوطنية، ويرتاحون في المساحة الطائفيّة والمذهبيّة والفئويّة. ميشال عون أحد هؤلاء.
لم يكن الرئيس السابق ميشال سليمان يترأس تياراً سياسياً وطنيّاً عريضاً، أو كتلة نيابيّة وازنة. إتّكأ على تاريخه في المؤسسة العسكريّة، وحافظ على التوازنات فيها وفي الدولة. فهم المعادلات المحليّة والإقليميّة، وحاول النفاذ مراراً نحو خيارات تكرّس مشروع الدولة، إلا أنّ التصدّي له كان كبيراً، ولكن يُسجّل له شرف المحاولة، كما يُسجّل له حفاظه على الدستور والسهر على تطبيقه.
الرئيس عون قام بعكس كل ذلك. تاريخه في المؤسسة العسكريّة له قراءاته المتباينة، وقد توّجه بالتمرّد الشهير الذي قام على رهانات خاطئة وخيارات مُدمّرة إنتهت بتكريس الوصاية السوريّة على لبنان، إذ تبيّن أنّ “حرب التحرير” لم تكن سوى ردة فعل إعتباطيّة على رفض وصوله إلى رئاسة الجمهوريّة آنذاك، الأمر الذي لو تحقّق، لما كانت هناك حرب ولا من يحزنون! يا له من حلم لم يمت منذ أكثر من ثلاثين سنة. عاش الحلم ولكن مات البلد.
المهمّ الآن، أنّ العهد، وصهر العهد، لهما هدف وحيد: التفاوض على التأليف قبل التكليف، وهذه من البدع الدستورية الجديدة التي تُسجّل لرئيس الجمهورية. كم هي طويلة تلك اللائحة من المخالفات الدستورية (نصاً وروحاً). كم هو ثقيل هذا العهد على صدور اللبنانيين، وكم هو مُدمّر لطموحاتهم وأحلامهم.
عذراً من كل سيّدة محترمة تُدعى “تيريز”، والمعنى بقلب القارئ!