IMLebanon

في الثلث الثالث لم يعد يتبقَّى إلا الصلاحيات

 

 

عودة الرئيس سعد الحريري مفرحة له، مقدار ما ستكون مؤلمة لقصر بعبدا. اعتاد الرجل التكليف فالاعتذار عنه، والترشح فالتراجع عنه، فالعودة إليه، والخروج من الحكم رغم إرادته. أضحى حلاً وحيداً ما إن هبط عليه – بحسب عبارة قديمة للرئيس الياس هراوي – «الروح القدس»

 

ليست المرة الأولى يُسمّي رئيس للجمهورية رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة لم يُرده وضد مشيئته، وإن لم يكن هو صاحب قرار التسمية. قبل الرئيس ميشال عون، حدث ذلك مع الرئيس إميل لحود عندما أرغمته الغالبية النيابية الجديدة عام 2005 على التسليم بتكليف الرئيس فؤاد السنيورة تأليف حكومة ما بعد الحقبة السورية. كان – كعون – في الثلث الثالث من ولايته الثانية. المألوف أن العضد الأول للتكليف هو رئيس الجمهورية، السبّاق إلى اختيار الشخصية التي يرغب في التعاون معها، فتجاريه الغالبية النيابية وتقترع له. في الإمكان العثور على استثناءات في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف أكثر منها ما بعد تطبيقه. لم تكن لدى أي من أسلاف الرئيس الحالي كتلة نيابية موالية له، أو منبثقة من حزبه كي تضطلع بدور إضافي مكمّل.

 

المألوف أيضاً أن يبادر رئيس الجمهورية إلى عرقلة تكليف مَن لم يُرده على رأس حكومة جديدة، على غرار ما فعل لحود مرتين على التوالي عامَي 1998 و2004 بإبعاد الرئيس رفيق الحريري عن السرايا، باستفزازه أو تقديم ذرائع لا يسعه إلا الاستسلام لها. ثمة ما عُرف أيضاً بحال ثالثة لم تتكرّر، هي مناورة رئيس الجمهورية من أجل حمل رئيس الحكومة على الاستقالة، كما لو أنها تُفرض عليه. حصل ذلك عام 1992 بسقوط الرئيس عمر كرامي ضحية لعبة شارك فيها الرئيس الياس هراوي ومسؤولون سوريون واختبأ وراءها الحريري الأب في ما عُرف بـ«ثورة الدواليب» حينذاك وانهيار الليرة، توطئة لإيصال الحريري إلى السرايا. بيد أن دمشق تحوّطت لهذا الخيار، باستباقه بإجراء انتخابات نيابية عامة بغية تقييد الحريري سلفاً.

على مرّ السوابق تلك، كان لرئيس الجمهورية دور رئيسي في اختيار الرئيس المكلف، أو تزكيته إذا قررته سوريا (ما بين عامَي 1990 و2005)، وكانت الغالبية النيابية تنصاع لإرادتهما. ذلك ما عناه درس أن لا رئيس للجمهورية أُجبر على مساكنة رئيس للحكومة لا يريده أو ينفر منه، ما خلا السابقة الوحيدة وهي حكومة السنيورة عام 2005. بيد أن الظروف التي أملت ما حدث وقتذاك كانت دونما شكّ استثنائية، وليست حتماً ثمرة تحوّل ديمقراطي، أو من صنع النظام نفسه: اغتيال الحريري الأب وخروج سوريا نهائياً من لبنان وانهيار الغالبية الموالية لدمشق في الحكومة والبرلمان والأجهزة الأمنية. بالتأكيد لم يرحب لحود بعودة الحريري إلى الحكم عام 2000 بعد فوزه الساحق في انتخابات ذلك العام، وهو الذي أخرجه منه، إلا أن تسليمه بنتائج الانتخابات تلك لا مناص منه.

ما حدث مع عون، بالوصول إلى تكليف الرئيس سعد الحريري، لا يشبه أياً من الحالات تلك. في الثلث الثالث من ولايته، بدا الرئيس يفقد كل مقوّمات القوة التي باشر عهده بها. لم يكن قليل الأهمية أن انتخابه رئيساً عارضه رئيس البرلمان نبيه برّي وكتلته، وذلك نادر في الاستحقاقات الرئاسية التي اعتادت أن يكون رئيس المجلس عرّاب انتخاب رئيس الدولة، فإذا جلسة 31 تشرين الأول 2016 تتطلّب ما لم يحدث قبلاً، وهو أربع دورات اقتراع. تسلّح عون بعناصر قوة مضادة هي وقوف حزب الله والحريري الابن إلى جانبه، ناهيك بكتلة نيابية أقل من كتلته الموالية الحالية. مع ذلك نجح في أن يكون رئيساً قوياً في الثلث الأول حتى ما بعد انتخابات 2018، مذّاك بدأ مسلسل الانهيار.

في مطلع الثلث الثالث بعد أيام قليلة، الرئيس بلا حلفاء تقريباً إلا أهل البيت، وبينهم المخلص والانتهازي والمتهوّر والممالق والكاذب والمكابر. أما الباقون، فلا يعدو دورهم إلا إمرار الثلث الثالث: برّي متعاون لأن لا غنى عن دوره والحاجة إليه. حزب الله يوازن بينه والفريق السنّي بلا تغليب الكفة. القوات اللبنانية في مقلب آخر مناوئ. وليد جنبلاط يظل نفسه، فلا يسعه أن يعثر في عون الرئيس إلا على عون الجنرال، وكان من أعتى الذين قاتلوه في سني الحرب بدءاً بعام 1983 وانتهاءً بعام 1989. ولذا يكاد يكون الوحيد الذي لا يشبه سواه. يغالي في العداء مثل مغالاته في المصالحة والانحناء. أما الحريري ومن ورائه السنّة، فالمشكلة أكثر وقعاً. في تاريخ أسلافه، لا رئيس لم يحالف زعيماً سنّياً ويخاصم زعيماً آخر، بما في ذلك بعد اتفاق الطائف على نحو معادلة الحريري الأب والرئيس سليم الحص. كذلك في المذاهب الأخرى. بين عون والحريري إما تحالف أو عداء بلا أي بديل، أو ربما العثور على هذا لا يستحق العناء.

ليس منطقياً القول بأن العهد انتهى قبل أن يصل إلى نهايته، فلم يصمد سوى في ثلثه الأول. بل يكاد لا يكون وحده يختبر واقعاً كهذا: بدأ سقوط عهد الرئيس كميل شمعون في الثلث الثالث (1956 – 1958) بمقدمات الحرب الأهلية الصغيرة ثم انفجارها، والرئيس شارل حلو في الثلث الثالث (1968 – 1970) مع مقدمات اتفاق القاهرة، والرئيس سليمان فرنجية في الثلث الثالث (1975 – 1976) باشتعال حرب السنتين، والرئيس الياس سركيس – مع أن كل سني الولاية مستعرة – في الثلث الثالث (1980 – 1982) تحضيراً للوصول إلى الاجتياح الإسرائيلي. أقسى التجارب مع الرئيس أمين الجميّل، بأن حافظ على قوة العهد طوال الثلث الأول من الولاية فقط.

 

سوء حظّ الولاية من ثلاثة: الطبقة المرتكبة والمعاونون الانتهازيون والطبيعة

 

 

بعد اتفاق الطائف، حقبتان مختلفتان لعهود ثلاثة رؤساء متعاقبين: أولى ما بين عامَي 1989 و2007: بفضل وجود سوريا في لبنان، أنهى هراوي ولاية السنوات التسع أقوى مما كان عند انتخابه. وبفضل خروجها من لبنان، أنهى لحود ولاية السنوات التسع أضعف بكثير مما كان يوم أقسم اليمين الدستورية عندما لوّح بقطع يد السارق. أما الحقبة الثانية ما بين عامَي 2008 و2014، فلا يسع أي أحد مع الرئيس ميشال سليمان، التوافقي، أن يعرف متى بدأ الثلث الأول ومتى انتهى الثلث الثالث. إبان ولايته، بفضل اتفاق الدوحة، لم يعد ثمة رئيس للجمهورية أو رئيس للحكومة، بل موازين قوى متجاذبة في الشارع، وعلى سطح النزاع السنّي – الشيعي يصنعان قرارات السلطات.

ربما من سوء حظ الرئيس وسوء حظ الولاية، أن الطبيعة مرة، والطبقة السياسية المتواطئة الفاسدة والمرتكبة مرة أخرى، والأخطاء الجسيمة المتهوّرة التي ارتكبها الانتهازيون والباحثون عن أدوار وذوو الرؤوس المنفوخة بين معاونيه مرة ثالثة، قادوا عون إلى أن يجبه أصعب أثلاث الولاية الذي هو آخرها، كما أسلافه.

لعل ما يُفرّق الثلث الأول عن الثلث الثالث في تجارب الرؤساء المتعاقبين، طبعاً باستثناء الاستثناء الذي هو الرئيس فؤاد شهاب، أنهم حكموا في الثلث الأول بالدور والصلاحيات الدستورية، ولم يعودوا يملكون في الثلث الثالث كي يحكموا سوى التشبّث بالصلاحيات. آخر ما يتبقّى.