تأخر كثيراً رئيس الجمهورية ميشال عون ليعلن تلك المعركة في وجه الفساد الذي قدم منذ نيف وأربع سنوات لمجابهته ومواجهة طبقة سياسية ترسخت عميقا منذ بداية تطبيق إتفاق الطائف.
كان يمكن لذلك الخطاب الإستقلالي أن يشكل ركناً من خطاب القسم في العام 2016. لكن لسان حاله ومناصريه هو أن تأتي كلمة الإستقلال متأخرة خير من أن لا تأتي أبداً، لكن العبرة في الفعل في معركة جد صعبة.. إن لم نقل مستحيلة مع منظومة سلطوية يعتبر العهد نفسها خارجها.
من يدقق بكلمات عون السبت الماضي، يستشرف إرهاصات المرحلة المقبلة بالنسبة إليه كما إلى وريثه في «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، بينما تسير عقارب الزمن متسارعة في الثلث الأخير من الولاية الرئاسية.
الخطاب جاء دفاعياً في إطار الهجوم، عبر نبرة عالية ليلقي اللوم على شركائه في السلطة مستخدما مصطلحا دأبت إنتفاضة الشارع على ترداده ضد «منظومة الفساد» الطائفية والمذهبية. الفساد الذي يتخذ أوجها عدة سياسية ومالية وإدارية والذي يمنع أركانه مجتمعين المحاسبة في بلد يعاني مآسيَ من كل نوع.
يرى متابعون لتاريخ الرجل في مراحله المختلفة، أن ما خرج به كان دأبه على الدوام في تحميل المسؤولية للآخرين الذين يرى نفسه ضحيتهم وكيديتهم.
والعماد الذي عاد الى وطنه في العام 2005 متكئا على تاريخ في النضال والصمود عند المسيحيين منذ بروزه العام 1989، حاز حين عودته على نحو 77 في المئة من أصوات منتخبيهم. مع الوقت، بدأ العد التراجعي له ليحصل على نصف الأصوات تقريبا في انتخابات العام 2009، وإن حافظ على تصدره عندهم.
والحال أن كثيرة هي العوامل التي جعلت في تآكل رصيد العماد الذي وجهت إليه مرحلة الحكم وإخفاقاتها ضربة قوية توجت في 17 تشرين العام الماضي بالتكافل والتضامن مع أخصامه على الساحة المسيحية الذين لم توجه اليهم تلك الادانة العميقة بعد أن سارعوا الى خلع عباءة الحكم الوسخة ومحاولة تسلق الانتفاضة.
واليوم، تختلف التقديرات حول مدى هذا التراجع الذي يوجه أساسا الى رئيس «التيار» جبران باسيل. ثمة من يشير الى توازن ما بات قائما بين «التيار» و«القوات اللبنانية» التي حققت تقدما في الانتخابات النيابية الأخيرة وقلصت الفجوة مع «التيار» الذي تخطى ثلث الأصوات بقليل.
لكن السؤال هنا لا يتعلق بالأحزاب حصراً، وهو ما يعني الأخصام مثل «الكتائب» و«المردة» وغيرهما من الذين لم يحققوا مكاسب هامة أخيرا، بل بالشرائح المستقلة. وهؤلاء قوامهم الخارجين من «التيار» وأولئك المعارضين أصلا له، كما المتعاطفين مع المناخ السياسي الحالي بعد إندلاع الانتفاضة الشعبية.
وهي شرائح يميزها حضور شبابي متمرد على الأحزاب السياسية التقليدية يبحث عما هو جديد، مضافا الى نخب مسيحية إفترقت عن «التيار» وباتت ذات قرار ذاتي، وطبعا الذين تركوا الاحزاب المتخاصمة مع «التيار» والذين شرعوا في قراءة نقدية للجميع.
«المنظومة» والتحقيق الجنائي
وفي محاولة منه لاستعادة القيادة، يبدو أن عون شرع في رفع عنوان محبب للبنانيين وهو الإصلاح عبر ضرب الفساد. وكان ذلك قوام خطابه الأخير لـ«قيام الدولة»، متحدثا عن التحقيق المالي الجنائي الذي يتهم العهد المنظومة المضادة بإفشاله.
ستُفرج الفترات المقبلة عن معارك نيابية سيخوضها العهد و«التيار» وعلى رأسها إستعادة الأموال المنهوبة. وفي مسألة التدقيق الجنائي، يبدو خصوم العهد واضحين، حسب قراءة البعض: هي الطبقة السياسية التي حكمت مع بداية تطبيق الطائف. لا صعوبة في معرفة هؤلاء الذين يصنفهم العهد بحماة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري والزعيم «الإشتراكي» وليد جنبلاط هم على رأس «المنظومة» التي ألمح عون إليها. ولعلهم من قصدهم بحديثه عن تحرير مؤسسات الدولة من نفوذ السياسيين والمرجعيات، علما انها تهمة يقابله الاخصام أنفسهم بها وهو الذي جاء الى الحكم لوضع حد لسيطرة السياسيين على الدولة.
يشير هؤلاء الأخصام الى أن كل ما جاء في خطابه «الشعبوي» هو للإستهلاك الاعلامي ليس أكثر وللمزايدة ولمحاولة الحد من تدهور الشعبية التي تمثل التحدي الاهم لخليفته المُختار جبران.
اليوم، تشير كل المعطيات الى أن لا حكومة في المدى المنظور، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد أكثر من أي وقت مضى الى حكومة «فاعلة وفعّالة» نادى بها عون في كلمته.
هنا، لدى العهد و«التيار» معركتهما التي تتخذ من جديد عنوانها المسيحي وقد اقتنصا غلطة الحريري في محاولة استئثاره بغالبية الوزراء المسيحيين لرفع تلك المظلومية ومحاولة الكسب من جديد في الشارع المسيحي.
وفي كلامه حول «الإستقواء والتستر بالمبادرات الإنقاذية للخروجِ عن القواعد والمعايير الواحدة التي يجب إحترامها وتطبيقها على الجميع»، رفع عون عاليا قضية تلك المظلومية قبل أن يضع عناوين جاذبة للمسيحيين أولها قضية معالجة كارثة إنفجار المرفأ التي زاد سوء حال أهل المناطق المجاورة وهم مسيحيون في غالبيتهم، من وطأة الغضب الشعبي على العهد، وهنا كان وعد رئيس الجمهورية في معالجة جوانب الكارثة كافة على صعيد التحقيق.. لكن الأمور تبقى في خواتيمها.
أما الدعوة الى الحوار، فهي ليست الاولى لعون، لكنه أشار إليها في ظل ما تحدث عنه من متغيرات وتحولات مقبلة في محاولة لمعالجة القضايا العالقة، لكنها لن تخرج عن واقع حوارات ماضية، وهي محاولة لإظهار الطابع الجامع والمحايد للعهد، حسب قراءة مخاصمة له.
على أن ما يستخلص من الخطاب الأخير، أن عون سينتقل عملياً من مرحلة الدفاع الى الهجوم، لكن ذلك لا يبدو سيحقق النجاح في وجه «المنظومة» المتحالفة مع بعضها البعض ما يؤكد تماسكها، كما نتيجة عدم إستعداد الحليف الأوثق، «حزب الله»، على مناصرة العهد ضد تلك المنظومة لأسباب كثيرة، ولعل ذلك كان أحد أسباب فشل العهد حتى الآن. وكان لكلام عون عن «المتاريس المصلحية التي رفعت في وجه التدقيق الجنائي، بتمويه مُـتـقـن لتوجه الضربة له»، دلالات كثيرة حول المنظومة التي المقصودة والممسكة بمفاصل القرار المالي منذ عقود.
من الواضح أن عون سيخوض معركته المقبلة على هذا الصعيد في المجلس النيابي في ظل حكومة تصريف للأعمال، وهو ترجم دعوته إلى «نواب الأمة الى القيام بواجبهم التشريعي الذي على أساسه أولاهم الناس ثقتهم»، أمس عبر رسالته الى مجلس النواب التي دعا فيها الى التعاون مع السلطة الإجرائية لتمكين الدولة من إجراء التدقيق المالي، ويكون قد رسم معالم الحرب في إطارها الدستوري. لكن الفشل من جديد لن يكون له تداعياته على العلاقة مع أخصامه السياسيين فقط وهو أمر مفروغ منه، بل على العلاقة مع الحليف الأهم والأوثق الذي وُجهت إليه أيضاً الرسالة: «حزب الله».