على خلفية التحقيق الجنائي دخل لبنان في آتون حرب من نوع آخر. تطايرت الرسائل بين بعبدا وعين التينة، اولاً من رئيس الجمهورية ميشال عون مستنجداً بالنواب ويشكو اليهم ان “التدقيق المحاسبي الجنائي ضروري كي لا يُصبح لبنان في عداد الدول المارِقة أو الفاشلة في نظر المجتمع الدولي، واستمرار التمنّع عن تسليم المستندات الى شركة التدقيق أدّى إلى عدم تمكنها من المباشرة بمهمتها… ثمّ أنهت العقد” والثانية كان فحواها سياسياً مبطناً تمثل بإعلان كتلة “التنمية والتحرير” النيابية التقدم بواسطة النائب علي حسن خليل بـ”إقتراح قانون اخضاع الادارات والمؤسسات العامة والمرافق للتدقيق الخارجي الجنائي” وهو ما يمكن اعتباره بمثابة رد على الرئاسة الأولى التي تتهم الرئاسة الثانية بحماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
شكا عون صلاحياته المحدودة في مرحلة ما بعد الطائف لدرجة يعجز معها رئيس الدولة عن طلب محاسبة حاكم المصرف المركزي او الطلب من الحكومة محاسبته. مع العلم هنا ان مفوضة الحكومة لدى مصرف لبنان التي سبق وعينتها الحكومة بتاريخ العاشر من حزيران الماضي تحتسب سياسياً من حصة رئيس الجمهورية وهي تمتلك بناء لقانون النقد والتسليف في مادته رقم 44 حق الاطلاع على جميع سجلات المصرف ومستنداته الحسابية، والتدقيق في صناديق المصرف وموجوداته. لكن ومنذ تعيينها لم يُسمع لها صوت بخصوص هذا الموضوع. وكي لا يكون تحميل المسؤولية محصوراً بها فلا بد من السؤال هنا عن دور القضاء المتمثل بمجلس القضاء الاعلى والنيابة العامة التمييزية والمدعي العام المالي، الا يفترض ان يتحركوا ولو من باب السؤال طالما أن الامر يتعلق بحقوق الدولة واموال المواطنين؟
هذا في القضاء، اما في السياسة ومنذ اعلن عن ابرام الاتفاقية وباشرت الشركة الفرنسية للتدقيق المالي الجزائي مهامها، رفض الحاكم المركزي رياض سلامة التجاوب مع طلب الشركة بالاجابة على 111 سؤالاً وجهتها للمصرف المركزي متذرعاً بقانون السرية المصرفية. كان المطلوب يومذاك اما اللجوء الى مجلس النواب لتعديل قانون السرية المصرفية وتعليق العمل به لفترة محددة، او رفع الحصانة السياسية عن رياض سلامة ومحاسبته. ولو توافرت النوايا لذلك لكانت حكومة حسان دياب على وشك المطالبة بإقالته لولا تقاعس السياسيين. ما حصل يومها يجعل الاطراف السياسية مسؤولة. لم يتم تحصين التدقيق الجنائي بالتشريعات والقوانين الملائمة، وانقسمت البلاد بين تكتل سياسي مدافع عن سلامة وآخر يطالب بمساءلته داخل حكومة اللون الواحد، حتى “التيار الوطني الحر” كان كـ”حزب الله” متردداً في قراره متوجساً او متماهياً مع حسابات طائفية فرضها موقف البطريرك الراعي المدافع عن سلامة.
سدت كل السبل بوجه رئيس الجمهورية ولم يعد امامه إلا اللجوء وفق صلاحياته الى النواب عبر رئيسه محملاً ممثلي الشعب مسؤولياتهم ومحولاً القضية الى قضية رأي عام. خاطب عون مجلس النواب في رسالة اعادت الذاكرة الى تلك الرسالة الشهيرة التي سبق وحولها الى مجلس النواب على خلفية تفسير المادة 95 من الدستور، وخلافاً للمرة الاولى، حيث تمهل في تحديد موعد لجلسة للمناقشة مجنباً البلد تداعيات الدخول في نقاش طائفي، سارع بري الى تحديد يوم بعد غد الجمعة موعداً لمناقشة رسالة عون، وذلك إنفاذاً للمادة 53 الفقرة 10 من الدستور والفقرة الثالثة من المادة 145 من النظام الداخلي لمناقشة مضمون الرسالة لإتخاذ الموقف أو الاجراء او القرار المناسب. وقد يعني هذا الاستعجال في تحديد الموعد فتح ابواب المواجهة على مصراعيها.
بشكل غير مباشر يشكو رئيس الجمهورية واقع الرئاسة الاولى ويقول إن لا سلطة لي تلزم حاكم المركزي بتنفيذ قرار الحكومة اللبنانية ولا الحكومة بمقدورها فعل ذلك بوصفها حكومة مستقيلة، واعتبر “ما حصل إنتكاسة خطيرة لمنطق الدولة ومصالح الشعب اللبناني، والتدقيق المحاسبي الجنائي بات من مستلزمات تفاوض الدولة مع صندوق النقد الدولي، وفقدان الثقة بالدولة وسلطاتها ومؤسساتها لن يقتصر على الداخل بل يُصبح لازمة لدى المجتمع الدولي”، ما يستدعي “التعاون مع السلطة الإجرائية التي لا يحول تصريف الأعمال دون اتخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة”. على الضفتين فضح النظام نفسه، ودخل في حرب حقيقية عنوانها التدقيق الجنائي.
بعد خطاب الاستقلال انتقل عون من ضفة رئيس الدولة الى ضفة المعارضة محدثاً انقلاباً سياسياً من داخل النظام، اطاح بما قاله وبمضمون رسالته اليوم بالتركيبة السياسية الراهنة والمرهون بها مهمة تشكيل الحكومة ما سيتسبب حكماً بارباك للجميع وبإرباكه هو نفسه مع الجميع، فما المتوقع لجلسة الجمعة؟ ليس أقل من إنقسام بين جبهتين نيابيتين واحدة مسيحية والثانية مسلمة لتنتقل المواجهة الى ضفة اخرى مختلفة يضاف اليها طرح قانون الانتخاب اليوم. المؤشر الوحيد الواقعي هنا ترحيل البحث بتشكيل الحكومة هذا الاسبوع الى ما بعد بعد الذي يليه وأبعد والتفرغ لورش التنسيق تحضيراً لمنازلة تلاوة رسالة عون. أبشروا!