بعدَ طولِ انتظار، ورحلة استغرقت ساعاتٍ معدودة برّاً و14 عاماً في السياسة، زار ميشال عون دمشق. في الشكل، بدا الرجل ضيفاً في حضرة «القدَر» السياسي، وتمادى الفريق اللصيق به وبعض الأصوات التي نمَت إلى جانب رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في تعظيم الحدث واعتباره مفصلياً، مع أن كل عارِف يُدرك عكس ذلك. أن تقام للعماد عون (يرافقه مستشاره بيار رفول) مراسم استقبال شبه رسمي، وأن تلتقِط العدسات الرئيس السوري بشار الأسد مُرحّباً بضيفه بكل ودّ، لا يعني كلّ ذلك استعداداً لتلبية ما يطلبه الجنرال. وأن يخرُج عون من اللقاء بضحكة «طفيفة» وبيان «أخويّ»، بعد اجتماع استمر 45 دقيقة وغداء عمل استغرق ساعتين ونصف ساعة، لا يعني أيضاً أنه غادر دمشق ومعه كلمة السر المفتاح في وجه ترشيح زعيم تيار «المردة» سليمان فرنجية.
بدا المناخ السياسي أقرَب إلى الفتور في تلقّي خبر استقبال دمشق لعون بحيث انتفت عن الحدث معالم المفاجأة أو انتظار ما هو غير متوقّع. كُثُر، عرفوا أن الجنرال طلبَ موعداً قبلَ أشهر، وقبلَ أسبوع فقط علِم أصدقاء سوريا بموعد الزيارة، تحديداً حارة حريك وبنشعي. لكن ذلك لا يقلّل من أهمية بعض الخلاصات المتعلقة بهذا التطور، خصوصاً أنها أكّدت نقطتين:
الأولى، أن سوريا حفِظت للجنرال بأنه عادَ عن صفحة العداء معها، كما حفظت له كل المواقف الجريئة التي اتخذها في ما يتعلق بالحرب عليها وفي ملف النازحين السوريين. وربما «تفهّمت» أيضاً عدم زيارته لها طيلة سنوات العهد، مع علمها بالالتزام الذي تقدّم به باسيل للرئيس السابق سعد الحريري عشية التسوية الرئاسية عام 2016 بإبقاء الأبواب الرسمية موصدة مع دمشق.
والثانية، أن باسيل، رغمَ تقاطعه مع قوى المعارضة على اسم الوزير السابق جهاد أزعور، لا يزال يمنّي النفس بعصا سحرية تشقّ الأرض لتبتلع ترشيح فرنجية وتعيد حياكة ما انقطع مع حزب الله في آن، وهو يأمل أن تكون سوريا هي العصا! وربما اعتقد بأنّ في إمكان عون أن يُصلِح ما أفسده هو في شؤون شتّى، وبدأ يستعين به حتى كادَ يستنفد طاقته. فعلها أول مرة خلال اجتماع لتكتل «لبنان القوي» إثر انقسامات حادة بينَ أعضائه على ترشيح أزعور، وكرّرها ثانية في عشاء التيار في جبيل، وثالثة في اجتماع الهيئة السياسية، فضلاً عن إدخال الجنرال في عملية الاتصالات مع البطريرك بشارة الراعي. إلا أن «استغلال» باسيل لرمزية ميشال عون ومكانته ساهم في انفلاش الحالة السياسية الاعتراضية داخل تياره، والتأكيد على موقفها المتمايز كما تبيّن. أخطأ باسيل التقدير وها هو يستمر في الخطأ، باستخدامه التكتيك نفسه مع الحلفاء.
الاستقبال الودي لا مفعول له في الملف الرئاسي بالضغط على حزب الله أو على فرنجية
لم يعُد سراً لكثيرين أن دمشق سبقَ أن رفضت طلبات من باسيل لزيارتها، ولا يرتبط الأمر بموقف شخصي أو سياسي من الرجل، إنما بسبب اشتراطه الذهاب إليها بشكل غير معلن. ولأن سوريا لم تعد في وارد تقديم هدايا مجانية لأحد، فإن مثل هذه الطلبات رُفِضت أيضاً لمسؤولين رسميين كانوا مقرّبين من عون حينَ كان في بعبدا، وكانت دمشق دائمة الإصرار على أن العلاقة بين البلدين يجب أن تكون بشكل رسمي. ومع كل التطورات التي حصلت في الملف الرئاسي وفشل كل محاولاته لدفع حزب الله للتراجع عن ترشيح فرنجية، ظن باسيل أن في إمكان عون أن يتوسط لدى سوريا للمساعدة، علماً أن ذلك لا يُمكن أن يكون متاحاً ضمن المسار الطبيعي الجاري.
لا شكّ أن الحديث بين عون والأسد سيحتاج إلى أيام وربما أسابيع، كي تتضح مضامينه. لكنّ العارفين يستطيعون بسهولة تقدير ما حمله الرئيس عون، الذي لا شك بأنه «شرح للأسد الخلاف مع حزب الله والموقف من انتخاب فرنجية والتشديد على الموقف المسيحي وضرورة عدم الاصطدام»، ناصحين الجميع بعدم الذهاب أكثر مما ينبغي في المراهنات فـ«الملف هو في عهدة حزب الله، فضلاً عن أن التنسيق والتواصل دائمان بينَ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله والرئيس الأسد»، من دون «إغفال موقع فرنجية ومكانته في سوريا».
وبينما يجزم هؤلاء بنهائية الموقف الذي لا بدّ أن عون سمعه، بقي سؤال عن تحديد سوريا موعداً للزيارة إبان تقاطع التيار الوطني الحر مع قوى المعارضة (قوات وكتائب وتغييريين) على ترشيح أزعور، وعشية جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري في 14 الجاري؟ تجيب مصادر وثيقة الصلة بسوريا على هذا السؤال بسؤال آخر: «ما الذي ستخسره سوريا باستضافة عون؟ كانَ بإمكانها أن تحقق مكسباً كبيراً لو زارها عندما كانَ رئيساً، لكنها لن تكسب شيئاً ولن تخسر شيئاً حين تستضيفه وهو الجنرال ميشال عون، فأبواب دمشق مفتوحة للجميع وأمر طبيعي أن تُفتح له».
واعتبرت المصادر أن الزيارة بالنسبة إلى سوريا ليست أكثر من رد جميل للمواقف التي سجّلها عون تجاهها في عزّ أزمتها. لكنّ هذه المواقف لا يُمكن أن يكون لها مفعول في الملف الرئاسي، لا لجهة الضغط على حزب الله للتراجع عن ترشيح فرنجية، ولا التدخل لدى فرنجية نفسه للتراجع عن ترشحه. المشهد تغيّر الآن. وسوريا، كما كل أطراف المحور الذي تنتمي إليه، تجِد أن مرحلة ما بعد الاتفاق الإيراني – السعودي والانفتاح العربي على سوريا، هي مرحلة حصد الغنائم بعد سنوات من التضحيات. وهي مرحلة لن تقِف عند خاطر أصحاب الحسابات الشخصية والرهانات الخاطئة.