يتفق دارسو تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، وخاصة في الربع الثاني من القرن العشرين، على أنّ ميشال شيحا هو أحد أبرز المفكّرين الذين أسهموا بشكل مباشر وفاعل في بناء لبنان المعاصر: لبنان الكيان والدولة والمؤسّسات والقيم الجمهوريّة. فقد كتب المؤرّخ المعروف، كمال الصليبي، في مؤلّفه «تاريخ لبنان الحديث» (دار النهار- طبعة سادسة 1984، ص212) عن ميشال شيحا قائلاً: «هو الذي أوكل إليه وضع مسودة الدستور، وكان أديباً واسع الاطّلاع، ولبنانياً شديد التمسّك بلبنانيته، واقعياً في تفكيره، نافذ البصيرة في شؤون البلاد. وكان من رأيه أنّ الحفاظ على الكيان اللبناني الجديد يستحيل ما لم تُفهم العلاقات التقليديّة بين الطوائف اللبنانية المختلفة وتُعطَ حقّها من الاعتبار». فلبنان على حدّ قوله: «بلد من واجب التقاليد أن تصونه من العنف». وقد جاء الدستور اللبناني الذي كان شيحا من أهم واضعيه، يكرّس هذا المفهوم للبنان. فثبّت حدود البلاد كما وُضعت في 1920 وجعلها غير قابلة للتغيير، وألزم رئيس الجمهورية المنتخب أن يقسم يمين الولاء لـِ «الأمّة اللبنانية».
في هذا النص، العناصر الأساسية لفكر ميشال شيحا ودوره التاريخي في الدفاع عن لبنان المعاصر وإبراز مختلف مقوّماته الوجوديّة بالمعنى الجيو- بوليتيكي.
أولاً: اسم لبنان قديم في التاريخ، لعلّه الأقدم (ورد في ملحمة جلجامش – أوائل القرن الثالث قبل المسيح). ومن ثمّ في النصوص الفرعونيّة والحثية والفينيقيّة والأشوريّة والكتاب المقدّس (75 مرّة في العهد القديم)، الكلدانية، الفارسية، العصر اليوناني، العصر الروماني، العصر البيزنطي، النصوص العربية. وله علامتان: الجبال + الأرز.
ثانياً: لبنان المعاصر هو لبنان الكبير المعلن في أول أيلول 1920 بكيان محدّد وحدود معيّنة (déterminées) بتمثّل (Représentation) عمل له واجتهد فيه بشكل أساسي الموارنة لمبررات جيوبوليتيكية.
ثالثاً: ميشال شيحا هو الباني الفكري لهذا الكيان الجديد، بمختلف أبعاده الجغرافيّة والتاريخيّة والحضاريّة والتراثيّة والسياسيّة والتنظيميّة والمؤسساتيّة.
رابعاً: شيحا… الأمّة اللبنانيّة ومحك التاريخ!
لقد أبرز شيحا الأمّة اللبنانيّة وجوداً وكياناً ومصيراً في سبعة مجالات:
1 – يبرّر وجودها: باعتبارها حقيقة جغرافيّة وتاريخيّة في مواجهة اسرائيل الكبرى، فهي نقيض لها، وسوريا الكبرى هي نقض لها!
2 – يعطيها معنى: هو معنى المماهاة (Identification) مع الحريّة، تحيا بها وتموت من دونها إذ يعتبرها «أرض ميعاد الأقليّات» أي أرض اللقاء مع الحريّة.
3 – يحدّد دورها: لبنان المحور (الجغرافي/ التاريخي (Axe central géo-historique)، لا لبنان الجسر. لبنان الفاعل والمنفعل بحركة التاريخ والحضارات والاتجاهات والدينامية (Dynamisme) لا لبنان الجسر ذي الاتجاه والجمود (Inertie).
4 – يعيّن اتجاهها: فلبنان أمّة تصدر عن/ وترجع إلى الحضارة المتوسطيّة ببعدها الشرق أدنوي جعرافياً (بعيدًا عن البعد الشرق أوسطي) وإلى التفاعل والحوار المسيحي- الإسلامي ببعده التعدّدي ثقافياً.
5 – ينبّه إلى تحدياتها: مشيراً إلى ثلاثة رئيسيّة:
أ- لبنان الممر: طريق الشعوب والفاتحين، ممرّ الفَيَلَة.
ب- مصالح النفط: تطرح الديمقراطية اللبنانية في سوق النخاسة الدولية لمصالح القوى العظمى.
ج- جوار اسرائيل: «لن نعرف الراحة أبداً… في جوار دولة مجسيّة» (Tentaculaire) توسعيّة.
6 – يصوغ نظامها الأساسي كرجل سوسيولوجي – سياسي تأسيسي من خلال: الدستور (1926) وفيه ركائز الحياة اللبنانية العامة: روح الشعب، معتقداته، قيمه، السلطات، الحقوق، الواجبات، الأنظمة بروحيّة مستقبليّة ثابتة ومستمرّة إلى الآن (59 مادة من أصل 90 لم تعدّل)، وهي من صياغة ميشال شيحا.
7 – يربط مصير الأمّة… بأبنائها… بنا نحن لا بالقوى الخارجيّة: الإقليميّة أو الدوليّة. وفي ذلك علينا أن نعوّل على خاصيّاتنا (Qualités) اللبنانيّة التي بأسف، نمتلكها كأفراد ولا نحاول ان نفعّلها كجماعة وهي في نظر شيحا: الذكاء الخارق، غنى الروح، عمق الثقافة، حبّ الريادة، سرعة الحركة، التمسّك بالحريّة، ودقة الفعل.
خاتمة: لقد احتضن ميشال شيحا روحياً وفكرياً ونضالياً القضية اللبنانيّة باحتضانه للأمّة اللبنانية التي كانت، من دون مبالغة، محور شغفه الدائم، همّاً واهتماماً خارج النزعة القوميّة الشوفينيّة وداخل النزعة الوطنيّة الإنسانويّة في عمقها الليبرالي الحر. هذه الإحاطة النادرة بحقائق أمّته بأبعادها المختلفة جعلته من دون منازع فيلسوف التاريخ لهذه الأمّة… بل أكثر من ذلك، جعلته «مربّي الأمّة اللبنانيّة».
ولذا، اعتبره المؤرخون «أوّل أنبياء لبنان وآخر أنبياء فلسطين».
(*) باحث جيو سياسي