بعيداً عن السياسة وتفاصيلها المملة وسجالاتها العقيمة، مر خبر صغير في حجمه ولكنه غني في دلالاته ومعانيه، هذا الخبر يقول ان جامعة القديس يوسف في بيروت (الجامعة اليسوعية) منحت الوزير السابق ميشال ادّه شهادة دكتوراه فخرية تقديراً لدوره الوطني، وقد اعتبر رئيس الجامعة الأب سليم دكاش في حفل التكريم ان منح شهادة الدكتوراه الفخرية لهذا الرجل الكبير هو فخر للجامعة وتقدير للوزير ادّه لما قدمه للجامعة والمجتمع والكنيسة والوطن.
ان تُبادر الجامعة اليسوعية، الصرح العلمي والثقافي الكبير والعريق بشخص الرئيس الصديق الاب سليم دكاش الرجل الوطني الكبير واللبناني الصميم والمقدام على الصعيد الاكاديمي، الى تكريم شخصية لبنانية مميزة مثل ميشال ادّه فهذه بادرة تستحق التقدير والثناء لأنها تعني وبكل بساطة ان هناك من يرى ويتابع ويقدر «الاوادم» العاملين في الحقل الوطني والشأن العام .
ميشال ادّه واحد من الشخصيات الذين «لم يأخذوا حقهم» في هذا الوطن وآثروا ان يبقوا جنوداً مجهولين وان يعطوا وطنهم بصمت وفرح ومحبة، ويعطوا الجميع من دون استثناء ومن دون تفريق وتمييز مثلما تعطي الأرض خيراتها والسماء ماءها والشمس نورها.
ميشال ادّه اهم من اي شيء آخر، هو «انسان» بكل ما تحمله وتوحيه هذه الكلمة من معنى، ميشال ادّه صاحب قلب كبير مفعم بالمحبة والتواضع والتسامح والإحساس المرهف، متعاطف مع هموم الناس وقضاياهم وحريص على صيانة الكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة الإجتماعية، رجل قيم ومبادئ واخلاق، صقلته الحياة والتجارب وزادته عمقاً وعاطفة وانسانية والتزاماً.
ميشال ادّه سلامه عميق وراسخ هو المتصالح مع ذاته والمنفتح على الآخرين، محبته مطلقة من دون حدود، عطاؤه لوطنه وكنيسته وشعبه كبير جدآ، لكن بصمت ومن دون ضجة وبهرجة واستعراضات وخطابات واضواء اعلامية وتلفزيونية، والاهم دون ان يمنن الناس بعطاياه.
ميشال ادّه غني بمزاياه ومميّز بشخصية ثلاثية الأبعاد فيها البعد الإنساني والروحي الايماني، والفكري الثقافي، والوطني اللبناني.
فالى غناه الإنساني والروحي والإيماني، ميشال ادّه رجل فكر وثقافة ومعرفة وهو موسوعة في حد ذاته بما يمتلك من مخزون فكري وسعة اطلاع ومعلومات ومعرفة عميقة في مختلف الإيديولوجيات والتيارات من الرأسمالية الى الشيوعية.
نشأته المسيحية قادته الى التعمّق بالدين فاستحق لقب «ذخيرة الموارنة» وكانت المسيحية منطلقاً لكل فكره واعماله، وبحثه عن العدالة قاده الى التعمّق بالماركسية حتى عُرف بـ «الماروني الأحمر»، وشغفه بالمعرفة قاده الى البحث في الصهيونية وفكّ الغازها.
يناقش في كل المواضيع، من دون عناء ويتنقل مرتاحاً من ضفة الى اخرى، من التاريخ الى الدين ومن السياسة الى الفنون التي يهوى منها الرسم والطبخ وجمع اللوحات.
ميشال ادّه متنور في اصعب الملفات وادقّها متّبعاً نهجاً عقلانياً انفتاحياً ديموقراطياً ومتميزاً بحكمة واعتدال في التعاطي مع مختلف القضايا قضية الإنتماء والهوية وقضية الحريات والتعددية الثقافية والانفتاح على المنطقة والعالم مع التشبّث بالأرض والتراث والحضارة.
لم يكن ميشال ادّه رجل فكر فحسب وانما كان رجل فعل وعمل ولم يغرق في التنظير وانما جهد في تجسيد افكاره مشاريعاً ومؤسسات نقلها الى ارض الواقع.
ولعلّ المؤسسة المارونية للإنتشار التي اسسّها واطلقها وبناها مع فريق عمل كفوء ومميز خير شاهد على انجازات هذا الرجل وقدراته، فقد بنى المؤسسة على اسس راسخة ومبادئ وطنية معتمداً طرقاً عملية وعلمية في مقاربة المسائل والملفات وفي التعاطي مع قضايا المغتربين ومحاكاة هواجسهم وتطلعاتهم، فكان ان نجح في فترة زمنية قصيرة في جمع ولمّ شمل الموارنة والمسيحيين حول العالم وفي تفعيل طاقاتهم وشدّهم الى وطنهم الأم وكنيستهم المشرقية وتوثيق اواصر وروابط العلاقة بين لبنان المقيم ولبنان المغترب.
ميشال ادّه هذا الرجل الكبير نجح في ان يختار التوقيت المناسب والطريقة المناسبة لتسليم الأمانة رئاسة المؤسسة المارونية للانتشار، وعرف متى وكيف يتخلى عن دور هو صنعه ولم يرثه عن احد ليعطي بذلك امثولة للسياسة والمسؤولين الذين يتشبثون بمراكزهم وكراسيهم.
في الواقع لم تشكل السلطة يوماً اغراء لميشال اده ولم تكن المراكز والمناصب يوماً هدفه ومبتغاه وهو الذي سنحت له اكثر من فرصة للوصول الى رئاسة الجمهورية فيما لو ارتضى المساومة على المبادئ والقناعات ومسايرة القوى والمصالح الإقليمية والدولية على حساب المصلحة اللبنانية والوطنية.
هذا النمط من الرجال نفتقده في ايامنا وفي هذا الزمن البائس الذي كثُر فيه الذكور وقلّ فيه الرجال، ميشال ادّه كان رجل دولة في زمن المحاصصة والتقاسم واللامسؤولية، ورجل حوار واعتدال وانفتاح كل مرة جنح فيها البعض نحو التطرف والتعصّب، فقد كان بالفعل رجلاً ميثاقياً.
مسيرته في الحياة كانت عصامية ومسيرته في السياسة كانت نبيلة ونقيّة، ناضل من اجل إرساء قيم الجمهورية وقيم لبنان «الوطن الرسالة» وفعل كل ذلك بعقل راجح وقلب كبير وتواضع قلّ نظيره، وبأسلوب مرن وسلس في الممارسة وتدوير الزوايا من دون تنازل في الميادين والثوابت اللبنانية والوطنية او التفريط بها .
كم نفتقد في هذا الزمن البائس الى قامات عالية و«قماشات» وطنية مثل قامة وقماشة ميشال ادّه، وكم يشدّنا حنين جارف الى الزمن الجميل، زمن السياسة القائمة على القيم والمبادئ والمواقف غير المبنية على مصالح شخصية وغير المنطلقة من نظرة ضيقة ومحدودة.
ليت هذا الزمن يعود يوماً وليت مدرسة ميشال ادّه تكبر وتتّسع وتخرج جيلاً جديداً يكسر القيود وروحية الانهزام والإحباط والتقوقع ويعيد لبنان الى ذاته والى المكانة التي يستحق والى الرسالة التي انتُدِب لها والدور التاريخي الخاص به الذي لا يمكن لأي بلد آخر في المنطقة ان يضطلع به ويؤديه.
ميشال اده «ذخيرة الموارنة» وذخيرة لبنان» اطال الله بعمرك واعطاك الصحة والعافية، لان لبنان بحاجة اليك والى حكمتك وعقلك الراجح في هذه الظروف الصعبة والمصيرية.