في ربيع العام 2018 مع التحضير للانتخابات النيابية، أبى ميشال المرّ أن يترجّل عن حصان الترشيح. على رغم سنواته الـ 86 وضعف قدرته على الحركة رفض إلّا أن يخوض المعركة ولم يقبل بأن يفسح الطريق لغيره وكأن لا وريث له في الدور الذي لعبه منذ العام 1960 في قضاء المتن وفي لبنان. ولكنّ الرجل لم يكن أقوى من المرض، انتصر عليه مرات لكنه غلبه أمس. كأنه البرج الذي بناه وحمل اسمه. سقط البرج وغاب بانيه.
ترك ميشال المرّ علامات فارقة في السياسة اللبنانية وفي صناعة تحولات كثيرة. على مدى ستين عاماً استمرّ ناشطاً في العمل السياسي فاعلاً وحاكماً أحياناً ومبتعداً وخاسراً أحياناً أخرى. تنقّل في مواقع كثيرة وبنى تحالفات أكثر بدا معها كأنّه القادر على جمع التناقضات وعلى السير في خطوط متعاكسة لا رابط بينها إلا أنها الطريق إلى البقاء في الواجهة والوجاهة وعلى قيد الحياة السياسية.
رجل بطوابق كثيرة
منذ بداية الحرب انتصب في وسط بيروت “برج المرّ”. لم تُتِح تلك الحرب التي اندلعت في العام 1975 لمشروع ميشال المرّ أن يكتمل. بقي حجراً وهيكلاً من الباطون المسلح وتحوّل إلى أحد أبرز المراكز العسكرية التي كان يستخدمها جيش النظام السوري لقصف المناطق الشرقية. بعد انتهاء الحرب لم يعد البرج ملك المرّ. ثمّة مخطّطات كانت لهدمه ولكنّه لم يُهدم ولا يزال في مكانه منتصباً. غاب ميشال المرّ وبقي البرج. ومثل البرج الذي بناه كان ميشال المرّ مركزاً للكثير من العمليات السياسية وقد استخدم النظام السوري طبقات كثيرة منه لشنّ عمليات سياسية ضد قيادات سياسية في المناطق الشرقية. كما برجه كان ميشال المرّ رجل سياسة بطوابق كثيرة.
استطاع أن ينتقل من دعم ترشيح الشيخ بشير الجميل لرئاسة الجمهورية والمشاركة في حملات انتخابه إلى المساهمة في دعم رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية إيلي حبيقة في التوقيع على الإتفاق الثلاثي في دمشق وصولاً إلى أن يكون أحد أبرز رجالات عهد الوصاية السورية منذ العام 1991 “أميراً” على “إمارة” المتن و”الزعيم” البديل عن القيادات السياسية الحقيقية مسجلاً عهده الذهبي في الحصاد السياسي طوال عهدي الرئيسين الياس الهراوي وأميل لحود على مدى 18 عاماً كانت فيها أبواب دمشق وبوابة عنجر، حيث مركز المخابرات السورية في لبنان، لا تقفل في وجهه. يطلب فيعطى حتى عندما أراد وزارة الداخلية أخذها من غريمه بشارة مرهج في العام 1994 ذلك أنه اعتبر أنّ هذه الوزارة هي أقلّ ما يمكن أن يقبل به لتكون متناسبة مع “حجمه السياسي”.
على رغم تجربته السياسية الطويلة واضطلاعه بالكثير من الأدوار واطلاعه على الكثير من الأسرار إلا أنّه كان مقلّاً في إطلالاته الإعلامية بعكس ما كان يفعل على مستوى الحضور الشعبي. كانت استقبالاته مفتوحة وكان يعتبر أن هذه العلاقة مع الناس هي المفتاح الثاني لاستمراريته السياسية. وقد أحسن استخدام هذا المفتاح بعد زوال الإحتلال السوري للبنان في العام 2005 ليحفظ موقعه النيابي من دون استعادة دوره السابق وحضوره السياسي. كأنّه نزل من رأس البرج الذي بناه إلى الطابق السفلي ولكنه بقي محتفظاً بوجوده داخل أسوار هذا البرج. أكثر من ذلك لم يكن لميشال المرّ أحاديث عن ماضيه وتاريخه. هو من القليلين الذين أغفلوا هذا الجانب على الأقلّ بحسب المعلوم عنه. فلم يعلن عن أنّه كتب مذكراته أو سجّلها وكان غالباً ما يرفض الدعوة للحديث عنها في برامج تلفزيونية تحكي عن تاريخ الشخصيات والمراحل التاريخية والأحداث.
الحلف الثلاثي وبشير الجميل
بدأ ميشال المر بناء برجه السياسي منذ بداية الستينات. رسم طريقه ومشى كأنه يغامر في حقول لم تكن حقوله. ولكنه قرّر أن يسير مدركاً أنّه سيصل يوماً ما. وذلك اليوم لم يكن بعيداً. كان يجرّب حظّه ويتمرّن على الإنتخابات النيابية ولم يهتمّ لخسارته في دورتي 1960 و1964. في الوقت نفسه كان يتّجه نحو جمع الثروة المالية مستفيداً من اختصاصه في الهندسة ومن قدرته على إدارة الأعمال. فُتحت أمامه الطريق نحو العمل في عدد من دول أفريقيا حيث تمكن خلال سنوات قليلة من جمع ثروة كبيرة لم تنقص منذ ذلك التاريخ.
في العام 1968 دخل البرلمان على لوائح الحلف الثلاثي في المتن. ولكن هذا الإنجاز لم يستمرّ طويلاً. فقد خسر الرهان في العام 1972 على عهد سليمان فرنجية. الخسارة النيابية لم تبعده عن الحياة السياسية. بعد سبعة أعوام كان يعود وزيراً في حكومة الرئيس سليم الحص على عهد الرئيس الياس سركيس وبقي وزيراً حتى نهاية عهده. تلك المرحلة شهدت التصاقه بمشروع انتخاب قائد القوات اللبنانية بشير الجميل رئيساً للجمهورية. نجحت المحاولة ولكنّها انتهت باغتيال الرئيس المنتخب. لم يكن الودّ قائماً بين ميشال المرّ والرئيس الخلف أمين الجميل. خرج المرّ من جنّة السلطة ولكنه بحث عن أبواب جديدة للعودة. راهن على خيارات رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية إيلي حبيقة ولكنّ هذا الرهان كاد يعود عليه بالكوارث. الإحتفال الذي حصل في دمشق في 28 كانون الأول 1985 انتهى في 15 كانون الثاني 1986 بعد الإنتفاضة التي قادها سمير جعجع وأدّت إلى حصار إيلي حبيقة في مركزه في الكرنتينا. هناك لم يكن حبيقة وحده. كان معه الياس ميشال المر. استغاثة الأب أثمرت فخرج الإبن من الحصار. ولكنّ الأب الذي خسر في رهانه السياسي لم يلتصق بمصير حبيقة وحاول أن يفتح خطوطاً للعودة إلى المناطق الشرقية من دون أن يكون له فيها حضور فاعل.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يكاد ميشال المر يخسر ابنه الوحيد. في مطلع السبعينات خططت منظمة إرهابية لخطف الإبن. وصلت المعلومات عن هذه الخطة إلى الأمن العام اللبناني وكان زاهي البستاني مسؤولاً عن العمليات. ثمة معلومات تقول ان هذا الكشف قاد إلى توقيف أحد المخطّطين الذي كان على صلة بـ”كارلوس”. وبالتنسيق مع المخابرات الفرنسية قاد هذا الشخص إلى المكان الذي كان يتخفى فيه كارلوس ولكن الأخير تنبّه للمحاولة نتيجة خطأ في التنفيذ وتمكّن من قتل عميله السابق وشرطيين فرنسيين والفرار.
لم ينس النظام السوري دور المر في الإتفاق الثلاثي. لذلك كان أحد خيارات الإرتكاز السياسي في الداخل مع محاولة خلق قيادات مسيحية جديدة تستطيع أن تؤمّن دور البديل عن القيادات الحقيقية. من هذا الباب عاد المرّ إلى جنّة الحكم وزيراً للدفاع في حكومة الرئيس عمر كرامي في العام 1990 ليستمرّ في إعادة بناء برجه وإضافة طوابق جديدة عليه.
اعتبر كثيرون أن المرّ كان أحد أبرز الشخصيات التي ارتكز عليها عهد الوصاية السورية ولكنّه على رغم ذلك لم يستطع أن يبني زعامة شعبية خارج إطار منطقة المتن التي تحوّل فيها ملجأ للكثيرين الباحثين عن حماية وعن ملجأ. خدم النظام السوري بطريقة جيّدة خصوصاً في تنظيم عمليات الإنتخابات النيابية. إلّا أنّ هناك من يعتبر أنّه لو لم يكن هو من يقوم بهذا الدور فكان يمكن الإستغناء عنه بسهولة لأنّ كثيرين غيره كانوا مستعدّين لتقديم خدمة لذلك النظام.
لم يتنازل المرّ الأب عن دوره في الحكم إلا بعد عامين على انتخاب العماد اميل لحود رئيساً للجمهورية. كان ابنه الياس صهر الرئيس وأعطاه الأفضلية ليكون وزير العهد القوي فحلّ محله منذ العام 2000 في وزارتي الدفاع والداخلية وفي نيابة رئاسة مجلس الوزراء. ولكنّه كان عليه أن يخوض امتحاناً صعباً في الإنتخابات النيابية الفرعية في المتن في العام 2002 عندما فرضت عليه المعركة ضد أخيه غبريال مدعوماً من لقاء قرنة شهوان وكتعبير عن استفتاء على رفض عهد الوصاية السورية. خاض المرّ المعركة بترشيح ابنته ميرنا ولكنّه خسرها بالنقاط قبل أن يذهب المقعد إلى المرشح الثالث غسان مخيبر بعد إسقاط المجلس الدستوري الذي كان يمون عليه المر نيابة الأخ غبريال.
القفز من مركب الوصاية
في العام 2005 لم يسقط ميشال المر مع سقوط منظومة عهد الوصاية السورية الأمنية والسياسية. لم يجد حرجاً في أن يتحالف مع العماد ميشال عون في الإنتخابات النيابية في المتن ربيع العام 2005 من دون أن يرتقي هذا التحالف الإنتخابي إلى حلف سياسي. هكذا بقي المرّ الأب في مجلس النواب وبقي ابنه الياس وزيراً. دور الإبن عرّضه لمحاولة اغتيال في 12 تموز 2005 على طريق انطلياس النقاش. تلك المحاولة أكملت مسلسل الضربات التي أصابت المرّ الإبن والعائلة خصوصاً أن الأب كان نجا من محاولة مماثلة في انطلياس في العام 1991 وكان وزيراً للدفاع.
منذ العام 2005 لم يخرج ميشال المرّ من السياسة ولكنّه لم يعد داخل المعادلة. بقي رقماً انتخابياً في المتن. وعلى رغم تقدّمه في العمر بقي مصرّاً على الدور الذي يقوم به. لا يتنازل عنه ولا يجيِّره لأحد غيره. كأنّه أدمن النيابة حتى لو كانت في برج مهجور كالبرج الذي بناه وتركه في وسط بيروت. لعلّه سرّ لا يملكه غير ميشال المرّ في نسج العلاقة مع الناس. كان يحافظ على خطوط التواصل مع ناخبيه حتى كأنّه كان يعرفهم واحداً واحداً. هذا الأمر أهّله ليبقى في مجلس النواب في انتخابات العام 2018 التي راهن كثيرون على أنّه لن يفوز فيها ولكنّه فاز. بقي نائباً حتى لو أنّ صحته ما عادت سمحت له بالدخول إلى حرم المجلس. فالرجل الذي كان يرفض أن يكون أقلّ من وزير داخلية أو دفاع ارتضى ركناً صغيراً يلوذ به ولقباً لا يتخلّى عنه. ولكن في النهاية ثمّة نهايات للرجال كما هناك نهايات للأبراج العاجية التي لا تدوم. يبقى أبو الياس حكاية من حكايات لبنان السياسية. يبقى رجل الكثير من المراحل، سياسياً لم يعرف العداوات القاتلة ولا الأحلاف المعمدة بالدم. إنها نهاية برج المرّ.