غيّب الموت واحداً من أذكى رجالات السياسة في لبنان، وأنبلهم و«أَرْجَلهم« المرحوم المهندس الاستاذ ميشال المر.
لقد كان رحمه الله داهية، خارق الذكاء، كريم النفس، يعرف من أين تؤكل الكتف. كما كان ارثوذكسياً من طراز رفيع، لكنه لم يتخذ المذهبية سلوكاً لعمله، فكل أعماله تتسم بالوطنية المترفعة عن أي مذهب، مع حرصه الكامل على رجال الدين كافة مع تقدير خاص لرجال الدين الأرثوذكس.
اتخذ من العقل طريقاً لكل خياراته، ولم يعتمد القوة، إذ أدرك بحنكته أن لبنان لا يحكم بالقوة… والأدلة على صحة موقفه كثيرة أهمها ما نراه اليوم في ظلّ «العهد القوي»… فأين صاحب أكبر كتلة نيابيّة؟ وأين الحزب العظيم…
هؤلاء كلهم لا يستطيعون ان يؤلفوا حكومة، لأنهم لا يستعملون عقولهم بل يستعملون ميزان القوة الزائدة والمفرطة، التي لا تؤدي الى الهدف.
يا جماعة الخير: أمثال المرحوم المهندس الاستاذ ميشال المر قلائل، ولم يبق منهم إلا القليل.
من هنا أقول يجب أن يكون ميشال المر مثلاً يحتذى به. يتعلم منه الآخرون كيف يكون الحاكم، وكيف يجب عليه ان يحكم.
علاقتي الشخصية قديمة بالمرحوم وكنت من أشد المعجبين به، وأذكر مرة من المرات انه التقينا في دمشق وتحديداً في فندق شيراتون، قال لي في حديث لا أنساه، «شوف» يا عوني لبنان يحكم من دمشق، والذي يظن غير ذلك، لا يعرف بالسياسة وهو واهم، يوجد اليوم في دمشق، رئيس مميز من أذكى وأدهى رجالات وحكام العالم، هو الرئيس حافظ الأسد، فلا يمكن ان يتكرر. إن من يريد للبنان الاستقرار والتقدم والازدهار، عليه ان يعرف كيف يتعامل مع الرئيس حافظ الاسد.
هنا أدركت ان ما كان يفعله المغفور له الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان صوابا وكان هو على حق، إذ أدرك منذ اللحظة الأولى ان استقرار لبنان يأتي من عند الرئيس الاسد والذي يظن غير ذلك مخطىء. وبالفعل إذ بعد اتفاق الطائف، ومجيء الرئيس المغفور له رفيق الحريري أعيد اعمار لبنان ابتداء من القصر الجمهوري، الى وزارة الدفاع، الى المدينة الرياضية الى سوليدير أكبر وأهم مشروع لاعادة إعمار مدينة مثل مدينة بيروت، من خلال أحدث وأجمل أبنية، تجمع بين الماضي والحاضر الى توسيع المطار. والأهم المدرج الجديد، الذي حل مشكلة مدخل بيروت الجنوبي، الى مشروع أليسار، الذي لم يسمح بعض الاغبياء بتنفيذه، الى الجسور في ضهر البيدر، الى طريق الجنوب الى طريق بيروت الدولية التي توقفت في الكحالة، بسبب غباء بعض السياسيين، الى شبكة طرقات لم يشهدها لبنان، الى كثير من الامور التي لا مجال لذكرها الى كثير من الانجازات التي وللأسف توقفت كلها، بعد عملية اغتيال الشهيد الكبير.
وللتاريخ نقول إن اغتياله هو اغتيال لبنان، كما أقول: الآن أدركت لماذا ابتعد دولة الرئيس ميشال المر عن السياسة، لأنه قال لي «لا توجد سياسة» بل يوجد سياسيون القليل منهم يستحقون ان يحكموا. ولكن للاسف لا يُسمح لهم ان يحكموا.
حادثة كنت أتمنى ان لا أرويها الآن لأنني كنت احتفظ بها في مذكراتي الشخصية والتي لم أقرر بعد متى سوف أصدرها.
على كل حال أبعد السوريون الزميل والصديق والوزير والنائب نهاد المشنوق عام 1988، يوم مجيء الرئيس اميل لحود رئيساً وكان الفريق الذي يدير عملية حكم الرئيس اميل لحود هو اللواء غازي كنعان ومعه بعض الضباط الموالون لسوريا، يومذاك لفقت تهمة للأستاذ نهاد المشنوق وأرسل الملف الى المرحوم «أبو الياس» كي يحقق فيه، ولكن قبل وصول الملف تم ابعاد الزميل الاستاذ نهاد، حيث ذهب الى باريس، ومن بعدها الى القاهرة.
بعد السماح للزميل بالعودة الى بيروت أي بعد 4 سنوات. وفي أحد الأيام، ذهبت مع الزميل الى «العمارة» هكذا كان يسميها المرحوم، وكانت جلسة تطييب له ليلاً. وعند دخولنا الى مكتب «ابو الياس» قال ابو الياس أولاً الحمدلله على السلامة، ثانياً أنت تعلم الفيلم الذي ركّبوه لك وأرسلوه لي، بل كُلِّفْتُ بالاجتماع بك والتحقيق معك بشأن هذا الملف.
ولكني ترددت كثيراً قبل ان أتحدث إليك، لأنني أدركت بعد قراءة الملف انه فارغ، وانه مركب، ولا يستحق ان يحكى به.
هذا ما جرى بين «ابو الياس» والزميل بحضوري.
عزائي الكبير أقدمه الى السيدة حرمه «أم الياس» والى معالي الوزير الياس والى شقيقاته.
تغمد الله الفقيد برحمته واسكنه فسيح جناته.
عزاء خاص: بهذه المناسبة الأليمة أتقدم من زميلي الاستاذ جورج سولاج والى مدير مكتب دولة الرئيس نديم ابو جودة ومن مرافقه الخاص حنا، بأحر التعازي القلبيّة.