عندما توجه النواب اللبنانيون إلى الطائف آخر أيلول 1989 كانت الطريق مرسومة نحو الإتفاق الذي سيتم التوصل إليه كخريطة طريق للخروج من الحرب، وإنهاء حال التمرد التي مثلها عون واستعادة دور الدولة ومؤسساتها والخروج من الحرب من خلال تسوية عربية ودولية.
لم يكن من المعروف المدة التي سيمضيها النواب في الطائف. كان طيف ميشال عون يخيم عليهم خصوصاً على النواب المسيحيين الذين التقاهم قبل سفرهم، وهو مصمم على عدم القبول بأي اتفاق سيتوصلون إليه طالما أنه لا يؤمِّن انتخابه رئيساً للجمهورية. في ظل تلك الأجواء ارتأى النائب رينيه معوض أن يصطحب معه حلاقه الشخصي شكري حمصي. كان حمصي حلاق الرئيس الياس سركيس فقد تعرف إليه منذ كان مديراً عاما للقصر الجمهوري أيام الرئيس فؤاد شهاب، وبحكم بقاء سركيس في القصر تحت القصف وبقاء معوض إلى جانبه فترات طويلة بدأ حمصي يقص شعر الرئيس معوض أيضاً. عندما طال انتظار النواب في الطائف صار حمصي يقص لهما شعرهما ممازحاً إياهما: أقص لك شعرك إذا انتخبت رينيه معوض رئيساً. كان معروفاً تقريباً منذ توجه النواب إلى المملكة العربية السعودية أنهم سيتوصلون إلى اتفاق وأن معوض سيكون الرئيس. قبل الذهاب إلى هناك كانت صورة الإتفاق قد ارتسمت تقريباً من خلال الإتصالات التي كانت تجري بين البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وكل من الرئيسين حسين الحسيني ورفيق الحريري، الذي كان لا يزال يتابع الملف اللبناني كممثل للعاهل السعودي الملك فهد.
في الطائرة التي كانت تقل النواب اللبنانيين إلى مطار القليعات كان النائب أدمون رزق منكبّاً على كتابة خطاب القسم للرئيس الجديد وعلى مراجعته معه. في 5 تشرين الثاني 1989 تمّ الأمر وصار معوض رئيساً للجمهورية. كان عمر ميشال ابن الرئيس 17 عاماً وكان لا يزال يتابع دراسته في مدرسة سيدة الجمهور.
من دارته في إهدن بدأ الرئيس المنتخب ممارسة صلاحياته. بعد ايام على انتخابه استقبل وفداً سورياً برئاسة عبد الحليم خدام جاء للتهنئة، وليبحث معه أيضاً في تشكيلة الحكومة الأولى في عهده. ولم يكن هناك اتفاق، ذلك أن الرئيس معوض رفض طلبات توزير عدد من الأسماء التي طرحها عليه الوفد السوري. أكثر من ذلك كان يريد، وإظهاراً لحسن النية السورية تجاه عهده ولتقوية وضعه في مواجهة حالة التمرد التي مثلها العماد ميشال عون، أن ينسحب الجيش السوري من البترون والكورة وزغرتا الأمر الذي لم يكن وارداً عند السوريين.
إضطر الرئيس المنتخب إلى الإنتقال من إهدن إلى مقر الرئاسة الموقت في بناية وضعها الرئيس رفيق الحريري تحت تصرفه في الرملة البيضاء في بيروت مقابل فندق البوريفاج حيث كان مقر المخابرات السورية. وفي ظل حماية أمنية ناقصة وفوضى سياسية كان أمنه مكشوفاً، الأمر الذي سهّل اغتياله في 22 تشرين الثاني 1989 قبل أن يصل إلى قصر بعبدا. إعتُبر هذا الإغتيال اغتيالاً للطائف ومحاولة ليستعيد النظام السوري الإمساك بالوضع اللبناني وإنهاء محاولة إخراجه من المعادلة.
نايلة معوض والإستمرار الصعب
اليوم بعد 35 عاماً هل يستطيع ميشال معوض أن يستعيد الدور الذي كان سيقوم به والده؟
خلال 35 عاماً انتقل ميشال معوض من مرحلة الإعداد والإستعداد إلى مرحلة الإقدام والمواجهة. بحكم كونه ابن الرئيس معوض الذي كان يمثل أحد أركان زعامات زغرتا كان عليه أن يكون وارثاً لهذا الدور. صحيح أنه كان عليه أن يتابع تعليمه ليكتمل نضوجه السياسي والفكري، ولكن كان عليه أيضاً أن ينزل إلى الأرض ويستمر في شبك العلاقات مع قواعده الإنتخابية وتحالفاته السياسية. وطالما أن عمره لم يكن يسمح له بذلك كان لا بد من مرحلة انتقالية تتولى فيها والدته السيدة نايلة معوض حمل المشعل ريثما تأتي ساعته. وهي قد أتت منذ العام 2008.
لم يكن من الممكن أن يتم إقفال بيت معوض باغتيال الرئيس معوض. في العام 1991 أخذت السيدة نايلة مقعده بالتعيينات النيابية التي حصلت لاستكمال عقد مجلس نواب 1972 بعد زيادة عديده إلى 128 نائباً بدل 99. وكان عليها أن تخوض المواجهة السياسية من أجل البقاء من ضمن قواعد اللعبة التي كانت تدير الأمور على الأرض وفي قوانين الإنتخابات وفي تشكيل اللوائح وتوزيع المقاعد تحت سقف إبقاء الأكثرية تحت سلطة عهد الوصاية. صحيح أن منافس العائلة الوزير سليمان فرنجية كان رجل السوريين في زغرتا ولكن هذا الأمر لم يمنع من تمكن السيدة معوض من الفوز في انتخابات 1992 و1996 و2000.
اعتباراً من العام 2000 سيبدأ ميشال معوض التأسيس لمسيرته السياسية. بحكم سنه لم يخض تجربة الحرب. صحيح أن عائلات زغرتا بقيت حاضرة على المستوى السياسي ولكن التجربة العسكرية تمثلت بتنظيم «المردة»، الذي آلت قيادته حكماً إلى سليمان فرنجية الذي يتصدى اليوم أيضاً لمحاولة الوصول إلى قصر بعبدا، وهو لم يكن أيضاً بسبب العمر وقلة الخبرة السياسية من بين الذين يمكن أن يرشحهم النظام السوري للرئاسة على مدى 15 عاماً اختصرها الياس الهراوي وأميل لحود، وكان يلعب فيها فرنجية دوراً محورياً كأحد أركان النظام.
مسيرة ميشال معوض
بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان في 25 ايار 2000 ووفاة رئيس النظام السوري حافظ الأسد، وبعد نداء المطارنة الموارنة الذي أطلقه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وبعد تأسيس لقاء قرنة شهوان القريب من البطريرك ورفع شعار استعادة السيادة وسحب الجيش السوري من لبنان، بدا أن طريقاً جديدة رسمت وأن خيارات سياسية جديدة ستبدأ معالمها بالظهور وكان طبيعياً أن تكون السيدة نايلة معوض في جانب الصف الذي سيتمحور حول بكركي، وكانت تلك البداية التي يمكن أن يبدأ منها ميشال معوض مشواره السياسي ولكن في ظل بقاء والدته في الواجهة.
إنتخابات العام 2005 النيابية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري شكلت منعطفاً كبيراً في دور العائلة وفي الدور السياسي لعائلات زغرتا، وذلك بعد خسارة سليمان فرنجية الإنتخابات النيابية وخروجه من مجلس الوزراء ومن مجلس النواب وفوز كل من سمير فرنجية ونايلة معوض وجواد بولس، ودخول نايلة معوض إلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تشكلت بعد الإنتخابات.
في انتخابات العام 2009 جاء الردّ معاكساً. قانون الإنتخابات الذي جرت على أساسه الإنتخابات جعل بشري مع عكار والضنية في دائرة وزغرتا والكورة والبترون وطرابلس والمنية في دائرة أخرى. بنود القانون تمّ التوافق عليها في التفاهم الذي حصل في الدوحة بعد عملية 7 أيار العسكرية التي نفذها «حزب الله» في بيروت في العام 2008. كان المطلوب استكمال الإنقلاب العسكري بانقلاب سياسي يحصل فيه «حزب الله» وحلفاؤه على الأكثرية النيابية بعد تحالفه مع «التيار الوطني الحر» في 6 شباط 2006. فاز سليمان فرنجية مع سليم كرم واسطفان الدويهي وسقط ميشال معوض في أول مواجهة نيابية بعد انكفاء والدته وتصدره المشهد السياسي. ولكن هذه الخسارة لم تبعده عن استكمال المهمة الملقاة على عاتقه. وكان عليه أن ينتظر حتى انتخابات العام 2018 مستفيداً من هذا الفراغ ليتفرغ لتنشيط «حركة الإستقلال» كتنظيم سياسي ولكن مع تغييرات كبيرة طرأت على تحالفاته.
إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية غيّر في معادلات زغرتا السياسية، وقانون انتخابات العام 2017 غيّر في المعادلات النيابية عندما اعتمد تقسيماً جديداً للدوائر مع النسبية وصوت تفضيلي واحد. وقع الخلاف بين فرنجية والعهد العوني وبعدما كان فرنجية في تكتل «لبنان القوي» مع «التيار الوطني الحر» خرج منه، وفي المقابل وجد معوض نفسه قريباً من «التيار» ومتحالفاً معه في الإنتخابات ليفوز وحده بينما فاز طوني فرنجية واسطفان الدويهي من لائحة فرنجية. كثيرون اعتبروا أن معوض لم يكن في مكانه الطبيعي عندما صار يجلس إلى طاولة نواب تكتل «لبنان القوي». كان عمر العهد سنتين ولكن التجربة لم تطل كثيراً ليبدأ الإفتراق من جديد ويعود معوض إلى الخط الذي كان فيه. بعد ثورة 17 تشرين وجد نفسه في قلب الثورة ومع مطالبها ووجد نفسه غريباً في «التكتل» الذي كان يحضر اجتماعاته فخرج منه واستقال من مجلس النواب.
رئاسة 2022 بين الأب والإبن
في انتخابات أيار 2022 عاد معوض إلى قاعدته السياسية. شكلت هذه الإنتخابات مفترقاً هاماً ليس على صعيد فوز معوض بالعدد الأكبر من الأصوات في زغرتا بل بتراجع نسبة الأصوات التي حصل عليها طوني فرنجية، وبفقدان «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» وحلفائهما الأكثرية النيابية التي حصلا عليها في انتخابات 2018. هذه الإنتخابات فتحت الطريق أمام معوض ليكون اسمه من الأسماء الأولى المطروحة لرئاسة الجمهورية منذ الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس في 29 أيلول.
بين العام 2000 والعام 2022 اجتاز معوض مساراً طويلاً أهّله لهذا الدور مدعوماً بشكل مباشر في معركته الرئاسية من «القوات» و»الكتائب» و»الإشتراكي» وعدد من النواب المستقلين. وكما والده في انتخابات 1989 الرئاسية وجد معوض نفسه يحمل عبء العودة إلى روحية اتفاق الطائف وإلى المهمة التي كان على والده أن يتحمّلها وأدت إلى اغتياله. يدرك معوض أن الرئاسة تحت هذا السقف الذي ينادي به دربها محفوفة بالمخاطر ولكنه في هذه المواجهة يؤسس لحجز موقع له بين نادي المرشحين للرئاسة، حاملاً شعار استعادة الدولة والمؤسسات والجمهورية والسيادة وتحرير قرار الشرعية من هيمنة دويلة «حزب الله» وسلاحه. يعرف أن المهمة صعبة وأنه قد لا يصل في النتيجة ولكنه يعرف أيضاً أن هذه الإنتخابات ليست نهاية الطريق، وأنها قبل أن تكون معركة رئاسته هو فإنها معركة تستحق أن تخاض من أجل إعادة الإعتبار لجمهورية ما بعد الطائف التي كان سيتكفل باستعادتها والده، وربما لم يفت الوقت بعد من أجل هذه الإستعادة ولذلك تستحق العملية المجازفة.