ضجيجُ «عمارة شلهوب» لم يكن عادياً. إختنق الجوارُ بسياراتِ ووفودِ المهنّئين بالفصح. «الحجّ» هذه السنة لا يشبه الأعوامَ الأخرى. هو موسمُ انتخابات وليس أيّ انتخابات. ثمّة مَن يريد أن يضع «المارد» في قفص ويتفرّج عليه يعدّ آخرَ أيام سطوته ونفوذه!
في الداخل «أبو الياس» محاط، تماماً كما على مرّ الأعوام، بمحبّيه و«جنوده» في «حرب الإلغاء» التي تُشنّ ضده. رؤساء بلديات، مفاتيح إنتخابية، وأعضاء الماكينة الانتخابية ومناصرون ومؤيّدون «للعظم» لا تلوّنهم العهود… وعائلته الصغيرة على رأسها الوزير العائد لـ«مساندة الوالد» الياس المر.
اللائحة «خماسية»، للمرة الأولى في تاريخ خوض ميشال المر للانتخابات النيابية. يُصوَّر الرجل كأنه محاصَر في قلعته، وقاصر عن «تسكير» لائحة.
لكنّ «الجيوش» المتقاطرة الى مكتب «دولته» في الطابق الرابع تعيد أمجادَ اللائحة الكاملة. أمجادُ الولاء الذي لا غبار عليه والالتزام «الحديدي». كأنّ أهلَ المتن كلّهم هنا. كأنّ شيئاً لم يتغيّر. غياب بعض «رفاق» ميشال المر لا يهزّ المشهد. تفصيلٌ لا يُذكر.
فُصح «العمارة» كاد يتحوّل الى مهرجان الاحتفال بالفوز المضمون. حَمل «أبو الياس» عادة أدمَنَ عليها المتنيون في الاستحقاقات الانتخابية. لم يعد الرجل قادراً على مجاراة محبّيه في «إدمانهم». لكنهم فعلوا ذلك. ككتلة بشرية متراصة رفعوه فوق الأكتاف. هذا زعيمنا.
يُظلم النائب ميشال المر كثيراً حين يُحشر في زاوية المقارنة بين حقبتين: بين «صانع» رؤساء جمهورية ووزراء ونواب ورؤساء بلديات وأزلام «تذبح بظفرها» ولوائح إنتخابية نظيفة من الأهداف… وبين باحث عن مقعد نيابي في آخر مراحل مشواره السياسي.
غيره ربما صَنع تاريخاً، وليس رؤساء، لكن بالمدفع والدمار الشامل. هو، بكل بساطة اختار بناء «عمارة» شاهقة من الخدمات. كجبل جليد. خدمة فوق خدمة. أبواب مفتوحة للمتنيين وليس متاريس وجبهات وفواتير دمّ. أبواب جرّت سلطة ونفوذاً ومالاً وصناعة قرار مع الكبار، قبل «إتفاق الطائف» وبعده، وسخاءً وبيتاً سياسياً بادل الوفاء بالوفاء، والغدر بالاستيعاب، ومحاولات الإقصاء بالدفاع المستميت عن «إمبراطويةٍ» زعيمُها يخوض الانتخابات اليوم كمَن يراقص أخصامَه في «حفل» توديعهم السياسة!
غيره رفع شعارات تُطرب لها آذان الحالمين بـ«الإصلاح والتغيير». لنترك للتاريخ أن يحكم على زيفها أو صدقها. شعار «ابو الياس»، في المقابل، واقعية سياسية زائدة عن حدّها، أبقت على وفاء جمهوره وقواعده حتّى حين يُعاير ببقائه وحيداً على كرسيّ إمبراطوريته. مَن مَع «ابو الياس» معه حتى الرمق الأخير. لن ينسحر بوهج العهد القوي وإغراءاته وضغوطه. «نبض» العمارة، كما بتغرين، كفيل أكثر بإيضاح الصورة.
مَن كان يقصد «دولته» قبل أكثر من عشرين عاماً طلباً لخدمة في البداية، ثم طالباً أن يكون من «جنود» الإمبراطور يجرّ خلفه اليوم، الى العمارة نفسها، الأولاد والأحفاد والأقارب… آخرون سقطوا، وانحازوا، ونقلوا البارودة. العهود تكشف معدنَ رافعي بطيخة الولاء. مع ذلك، لا يبدو «أبوالياس» متوجّساً من الآتي. تبدو الخميرة كافية لحصاد مثمر في السابع من أيار. فائض من القوة يصعب فعلاً تفسيره وسط معركة هي الأصعب في مسار الرجل المثير للجدل.
غيره يحوك التحالفات تحت الطاولة وفي غرف المؤامرات وبيع الكلام والإستدراج للاستهداف. «دولته» يفضّل دوماً التحالفات على نور. هو طبعاً لم يكن يوماً ممّن يوزّع هدايا مجانية لكنه، بشهادة القريبين منه، مرجعٌ في احترام التوازنات العائلية والسياسية والأحجام. المتغلغل في عظام المتن وزواريبه لا يعنيه ما يسمعه عن تلويح بفتح ملفات لمحسوبين عليه. يفتحون ملفاً سيفتح عشرة.
ليس الرجل طوباوياً، ولن يكون. مَن صَنَع هالة وزعامة ومرجعية كالتي صنعها ميشال المر يستحيل أن يكون منزَّها عن موبقات السياسة وخفاياها المعتمة وأسرارها الكبيرة والمحرِجة ربما.
لكن مَن هو إبن المرأة الذي يستطيع رميه بحجر إساءة إستخدام السلطة، وصرف النفوذ، والتحايل السياسي، والمواءمة بين المصلحة العامة وتوسيع ملعب الزعامة، و«زرع» الأزلام في المؤسسات والإدارات العامة، وحجز حصص ثابتة في التعيينات… مَن مِن «الأقوياء» والزعماء لم يفعل ذلك. وحده فقط يستطيع أن يعاير عهداً بكامله أنه يمارس سياسة إقصاء كان يوماً أحد ضحاياها.
وله أن يذكّر مَن يعنيهم الأمر بأنّ حين كان «الجنرال» ميشال عون والرئيس أمين الجميل في المنفى لم يتوان، كما نُقل دوماً عنه، عن تعيين نحو خمسة عشر مديراً عاماً مسيحياً من دون أن يطلب «كشفاً» عن إنتمائهم السياسي!
عرّاب أطفال المتن وإشبين عرسانه، القوي في «بيئته المتنية» والخبير في دهاليز العهود السابقة لا يخشى السقوط. إسألو جدران العمارة. هي شاهدة على «مؤامرة» محاولة تكسير رأس آخر رموز الزعامات الأرثوذكسية في «العهد الماروني القوي»، وأيضاً شاهدة على ماكينة إنتخابية لا يزال الآخرون يبدون كمَن «يتدرّج» في صفوفها.
فُضّت الشراكة مع «الطاشناق»، حليف العقود الخمسة، مع ذلك لم يرشّح «دولته» أرمنياً على لائحته. تمّ «السطو» على مرشّحين من الخاصرة الرخوة للائحة ميشال المر. إكتفى «الامبراطور» بأخذ العبر والتصرّف على أساسها. يرتقي الأمر الى مستوى إعلان حرب كاد أن يصل الى حدّ منع نائب المتن من أن يشكّل لائحته الخاصة.
لا تكمن المسألة فقط في موجبات قانون الانتخاب الجديد وشروطه التي كرّست «جنوناً» في نسج التحالفات ونقلت عدوى النزاعات الى داخل اللائحة الواحدة والفريق الواحد. في المتن للمكر السياسي وجوه أكثر بشاعة. الرجل الثمانيني صاحب حق في النضال للبقاء، تماماً كثمانيني القصر الجمهوري.
السياسة، بالمفهوم اللبناني المتعارَف عليه، ترشف حتى النقطة الأخيرة. لا فارق سوى أنّ المرّ تكلّف عناءَ الانتقال الى ساحة النجمة لمنح صوته لميشال عون «بيّ الكلّ» رئيساً للجمهورية، أما الثاني فلم يصرف جهداً لكي يمنع تحويل مكتبه الرئاسي غرفة عمليات لقبع آخر رمز أرثوذكسي من الخريطة السياسية. والشهود كثر على ذلك… حلفاءُ العهد أوّلهم!