مرّ تقرير البنك الدولي الأخير الصادر في أول تموز والذي يصنّف فيه البلدان وفق الدخل الفردي مرور الكرام. خُفّض تصنيف لبنان إلى فئة «بلد ذي دخل متوسّط أدنى»، وذلك بعد أن كان «بلداً ذا دخل متوسّط أعلى» منذ نحو 25 عاماً. للوهلة الأولى إعادة التصنيف هذه لا تدعو للهلع خاصة أن هناك مؤشرات أكثر وطأةً على الحياة اليومية للبنانيين مثل انهيار سعر الصرف، أو ارتفاع نسبة التضخم، وتدهور التغطية الصحية. هبوط دخل الفرد في ما خص لبنان، وكما جاء في التقرير إن دل على شيء، إنما يدل على إنهيار الطبقة الوسطى، وهي التي تشكل العمود الفقري ليس فقط للإقتصاد إنما للمجتمع بأسره.
أولاً، طبقة وسطى قوية تشكل الدافع الأساس لتطوير الرأسمال البشري ولنمو قطاع التربية المرتبط به، والذي يبقى الثروة الأهم للبلد الصغير والمصدر الأول لميزاته التفاضلية. لا يغيب عن بال أحد أن ما حل بالقطاع التربوي نتيجة الأزمة المستفحلة، من إقفال لمدارس، إلى تقلص هائل في قدرات الجامعات، وما رافقها من نزوح ليس فقط للاساتذة، إنما لأصحاب المهارات في كافة القطاعات، يشكل الخطر الأكبر على الإقتصاد والإنتاج. فإعادة بناء البشر أكثر شقاءً وأكثر كلفة من إعادة بناء الحجر.
ثانياً، تشكل الطبقة الوسطى محرك الإستهلاك الأول، وعلى هذه القاعدة تبقى الضمانة لنمو مستدام. فكلما نمت الطبقة الوسطى، بعديدها وقدراتها، كلما تعزز الطلب على البضائع والخدمات، وزادت الدورة الإقتصادية زخماً مع ما يرافقها من إستثمارات وخلق لفرص عمل وتطور لكافة القطاعات، ودخلت البلاد ما يسمى بالحلقة الإقتصادية الحميدة economic virtuous circle. وقد يكون الصعود الإقتصادي للصين في العقدين الأخيرين خير دليل على أهمية نمو الطبقة الوسطى، الضامن لنمو إقتصادي مستدام، والخزان الإستراتيجي الأول للأمم.
من نافل القول إن نمو الطبقة الوسطى واتساعها يترافقان مع تقلص الفوارق الإجتماعية، ولما تشكله من تهديد للأمن الإجتماعي، ومن ضغط على المالية العامة للحكومات المطالبة بالإنفاق على شبكات الأمان الإجتماعي. ناهيك عن أن الطبقة الوسطى تشكل المصدر الأول للضرائب المباشرة وغير المباشرة، وبالتالي ممول الدولة بامتياز. فكلما نمت قدرات الطبقة الوسطى، نمت معها قدرات الدولة. والعكس صحيح كلما انحسرت الطبقة الوسطى كلما تلاشت معها الدولة بكافة وظائفها، الأمنية، الإدارية والإجتماعية.
من هذا المنطلق مقلق جداً ما صدر عن البنك الدولي. الأرقام التي قاست مرحلة الربع القرن التي فاتت، أكّدت المؤكد، وهو أن البنيان اللبناني في خطر تحلل وتفكك لأن ركيزته الأساسية تتداعى، كما وكرست ما يلمسه اللبنانيون كل يوم من إنهيارات لم تقتصر فقط على المستوى الإقتصادي ولقمة العيش إنما اتسعت لتشمل المستويات الأخرى، من أخلاقية وثقافية وإجتماعية. ولأنها العمود الفقري، لن يقف لبنان من جديد، إلا إذا استعادت الطبقة الوسطى وجودها وعافيتها.