IMLebanon

لبنان في قلب نزاع النفوذ

 

 

لوزير الخارجية الاميركية السابق جورج شولتز مثل شهير حول فنون الديبلوماسية، ومفاده، انّه إذا زرع احدهم حديقة ثم تركها وغاب عنها لمدة ستة اشهر، فما الذي سيحصل عليه؟ الجواب هو الأعشاب. وفي هذه الحالة يعلم البستاني جيداً أنّ عليه إزالة الأعشاب الضارّة فورًا لكي لا يخسر حديقته. والديبلوماسية شيء من العمل الذي سيفعله البستاني.

وهذا المثل الذي لطالما ردّده شولتز خلال مهمّاته المعقّدة في الشرق الاوسط في ثمانينات القرن الماضي، يصلح تمامًا للمرحلة الحالية.

 

فكثير من العشب الضار، لا بل الشوك الكثيف، نبت في حديقة الشرق الاوسط خلال مرحلة غياب الولايات المتحدة الاميركية عن الساحة التي عُرفت دائمًا بساحة نفوذ اميركية صافية.

 

لذلك، لم تكن جولة العودة إلى الشرق الاوسط التي أرادها فريق الرئيس الاميركي جو بايدن سهلة او ميسّرة. لقد وجد بايدن انّ الشرق الاوسط تغيّر كثيرًا منذ زيارته الاخيرة له كنائب للرئيس منذ 6 سنوات. لم تشهد زيارته وضع حجر الأساس لتحالف أمني اقليمي في وجه ايران، ذلك انّ بعض الدول اعلنت انّها لا تريد أي اتفاقات عسكرية تشكّل تحدّيًا لإيران، وهو ما يعني انّ الهجمات التي نفّذتها التنظيمات المتحالفة مع ايران في عمق الخليج فعلت فعلها، ودفعت بعض هذه الدول إلى انتهاج سياسة أكثر حذراً. وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد أنّ حركة التطبيع الناتجة من «اتفاقية ابراهيم» لا تزال غير محصّنة وغير مضمونة. وبتعبير آخر، فإنّ التقارب الاقليمي الجديد مع اسرائيل بدا هشًا الى حدّ ما. أضف إلى ذلك، الضمور والفراغات على مستوى الايديولوجيات السياسية في الشارع العربي، والتي تتولّى في العادة قيادة حركة الشعوب وبرمجتها.

 

لذلك، ربما تعمّد الرئيس الاميركي الإعلان بوضوح كامل عن أنّ بلاده لن تنسحب من الشرق الاوسط ولن تترك فراغاً تملأه الصين او روسيا او ايران. وهذا ما يشكّل أساس السياسة الاميركية للمرحلة المقبلة في الشرق الاوسط. وقد لا تكون سياسة إدارة الظهر للشرق الاوسط، والتي انتهجتها ادارة بايدن، هي السبب في نمو «العشب الضار» والأشواك في حدائق الشرق الاوسط.

 

فثمة عامل أساسي ادّى إلى انقلاب المعطيات، ليس فقط في الشرق الاوسط بل على مستوى العالم، وهو الغزو الروسي لأوكرانيا. فلقد ادّى ذلك إلى تعقيد العلاقات الاميركية مع السعودية والإمارات على وجه الخصوص. صحيح انّ واشنطن تعمل على استثمار الحرب الاوكرانية من ضمن مشروع استنزاف قوى روسيا في اوكرانيا لأطول فترة ممكنة بهدف إنهاكها وإضعاف قدرتها على التحرّك بحرّية اكبر في العالم وفي الشرق الاوسط خصوصاً، الّا انّ المشكلات التي تحاصر واشنطن متعدّدة وكبيرة، وأبرزها على الإطلاق، الركود الاقتصادي الذي تتجّه اليه بخطى ثابتة وسريعة. وكان واضحًا انّ موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء العودة الاميركية إلى الشرق الاوسط. فهي انتزعت لنفسها مساحة حضور فاعل انطلاقًا من دورها في سوريا.

 

وهي وجّهت رسالتها بوضوح في هذا الشأن، حيث تمّ الإعلان عن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ايران لحضور قمة ثلاثية ايرانية ـ روسية ـ تركية، في الوقت الذي كان بايدن ينطلق في رحلته إلى المنطقة والمخصّصة لمواجهة نفوذ الصين وروسيا وايران. لكن الصورة ليست وردية ايضًا عند هذا الجانب. فأساساً لطالما كانت العلاقات الروسية ـ الايرانية يسودها الحذر والشكوك المتبادلة، على الرغم من المصالح المشتركة بينهما. لكن اللحظة الحالية دفعتهما إلى تجاوز حال الحذر، بعدما شعرا أن ليس لديهما الكثير ليخسراه إذا لم يتقاربا.

 

رغم ذلك، شهدت قمة طهران خلافات حول خطة الرئيس التركي للتدخّل العسكري في شمال سوريا، وتوافقت طهران وموسكو على معارضة التوغل العسكري التركي.

 

فروسيا تعمل مع دمشق لتركيز وجود عسكري سوري في المنطقة الحدودية بدعم ضمني من الاكراد. صحيح انّ بوتين خرج من قمة طهران بمكسب واضح تجلّى بكسب تأييد ايران لحربه في اوكرانيا، لكن تركيا تبقى معضلة وواقعاً خلافياً، وهي العضو الأبرز في حلف شمال الاطلسي (الناتو) بعد الولايات المتحدة الاميركية، وصاحبة الحضور الجغرافي المهم الذي يفصل بين روسيا وسوريا. وايران بدورها تنتشر من خلال المجموعات المتحالفة معها في قريتي نُبُّل والزهراء على مقربة من تل رفعت. ما يعني التعارض لا بل التناقض ما بين حضور ونفوذ ايران، وسعي تركيا إلى فرض أجندتها ومصالحها في الشمال السوري. لكن اوراق روسيا لا تنحصر في المنطقة الجغرافية فقط. ذلك انّ هنالك ما هو أهم وأخطر وذو أبعاد استراتيجية، فخلال ذروة انتشار جائحة كورونا عام 2020 فرضت المانيا حظراً على تصدير الكمامات والمنتجات الطبية إلى سائر البلدان المنضوية في الاتحاد الاوروبي. وكذلك فعلت فرنسا. وهذا ما اثار استياء بقية اعضاء الاتحاد، وهدّد وحدته واستمراريته، وسط تصاعد الاتهامات بأنانية المانيا وفرنسا على حساب التعاون الاوروبي.

 

الآن ثمة مشكلة أكبر وأخطر تهدّد اوروبا وتتعلق بالغاز. والسؤال الأبرز في اوروبا الآن، هو كيف ستتصرف موسكو بمجرد انتهاء صيانة خط «نورد ستريم1». البعض يعتقد انّ بوتين سيسعى إلى تحقيق ما عجز عنه بالحرب، أي بقطع امدادات الغاز لفرط الاتحاد الاوروبي وتفكيكه. ففي ظل ارتفاع مخاطر مستويات الركود والتضخم، قد يكون بوتين يخطّط لتوجيه ضربة قوية للاتحاد الاوروبي بقطع امدادات الغاز كليًا هذا الشتاء. وهذا النزاع يصيب الشرق الاوسط في العمق ايضاً. فيما فرنسا تعمل على التعويض من خلال تفعيل علاقتها مع الإمارات إلى الحدّ الأقصى، وفي الوقت نفسه إلى ترتيب اوضاع شرق البحر الابيض المتوسط حيث لبنان. من هنا، من الخطأ قراءة المواقف الاخيرة للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في الإطار اللبناني البحت. هي معركة نفوذ أوسع وأشمل وأفقها الزمني مفتوح على مصراعيه.

 

لونستون تشرشل قول بليغ مفاده: «إدرس التاريخ، ففي التاريخ تكمن كل أسرار فنون الحكم».

 

ولا شك في انّ هنالك من يستعيد درس المرحلة التاريخية التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، من دون ان يكون مبدأ الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة هو القدر المحتوم.

 

هو سباق على انتزاع مواقع النفوذ وفرض توازنات جديدة، والشرق الاوسط في قلب هذا النزاع. وخلال الاشهر الماضية تمّ وضع دراسة أظهرت تفاوت التأييد الاميركي لاسرائيل بين جيل الشباب والجيل الاكبر سناً.

 

وفي استطلاع خلال شهر آذار الماضي طاول 700 من الطائفة الانجيلية تتراوح اعمارهم ما بين 18 و29 عاماً، 33,6% اعلنوا تأييدهم لاسرائيل في مقابل 24,3% لمصلحة الفلسطينيين و 42,2% قالوا انّهم لا يدعمون احداً. وهذا يُعتبر تحولًا كبيرًا لمجموعة كانت تشكّل داعماً كبيراً لاسرائيل.

 

وفي آخر استطلاع لمؤسسة «الباروميتر العربي» الاميركية، ظهر انّ تأييد اللبنانيين لسياسات المسؤولين الإقليميين الكبار واعتبارها جيدة، جاءت على الشكل الآتي: محمد بن زايد 39% بوتين 38% شي جينبينغ 35% محمد بن سلمان 34% اردوغان 33% بايدن 31% بشار الاسد 29% وخامنئي 21%.

 

واللافت انّ اردوغان جاء اولًا في الاردن مع 61%، وفي فلسطين 61% ايضاً.

 

اما في العراق فجاء بن زايد اولاً مع 66% فيما حاز خامنئي على 16% عند الفلسطينيين و 28% في العراق و 8% في الاردن.

 

العبرة في كل ما سبق، انّ النزاع كبير ومعقّد، ونحن نحترق في لهيب الجحيم، وأمامنا استحقاق رئاسي يتأثر بالتوازنات الإقليمية، والأسوأ انّ حساباتنا شخصية.