ليس من المبالغة ابداً تركيز الأنظار على التطورات الحاصلة في اوكرانيا، كونها تلفح ساحات الشرق الأوسط المتوترة. فإيران أصبحت حاضرة في اوكرانيا، واسرائيل كذلك، أما روسيا فهي في سوريا منذ زمن بعيد، فيما الطرف الاميركي الحاضر في اوكرانيا، موجود بقوة في الشرق الاوسط.
لم تكن مناسبة بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالتالي تدشين العام الثاني من الحرب الدائرة، لتستدعي تلك الزيارة المثيرة للرئيس الاميركي جو بايدن إلى كييف، ذلك انّه لم يكن قد مضى شهران فقط على زيارة الرئيس الاوكراني فلودومير زيلينسكي لواشنطن. يومها ساد حديث في الأوساط الاميركية الإعلامية والسياسية والديبلوماسية على حدّ سواء، حول احتمالات ترتيب وقف لإطلاق النار والانطلاق في رحلة تسوية سياسية. لكن سرعان ما تبدّدت هذه الأجواء لمصلحة الاندفاع اكثر في أتون المعارك. صحيح انّ زيارة بايدن الطويلة والمرهقة لرجل ثمانيني، والتي تطلبت إجراءات أمنية عالية، حملت في طياتها هدفاً انتخابياً، وسط ارتفاع نسبة المعترضين على خوضه الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلّا أنّ ثمة اهدافاً اخرى لها علاقة بالنزاعات الدولية الكبرى انطلاقاً من الحرب الاوكرانية، ولا بدّ من رصدها بدقّة.
الإشارة الايجابية الوحيدة ربما، والتي يمكن استخلاصها من الزيارة، تتعلق بما حُكي عن إبلاغ البيت الابيض إلى الكرملين بالزيارة قبل ساعات من بدئها، والهدف من ذلك ضمان أمن الرئيس الاميركي على الأراضي الاوكرانية، وهو ما يعني أنّ خطوط التواصل الأمني المفتوحة بين البلدين ترسم سقفاً مضبوطاً للحرب الدائرة. وما أن انتهت الزيارة حتى حصل تراشق رئاسي اميركي ـ روسي، تضمّن عبارات عنيفة. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضع الحرب في إطار أوسع بكثير، له علاقة بالنزاع الدائر مع الغرب، أي، بمعنى آخر، إنّ هذه الحرب ليست اوكرانية بل عالمية إلى حدّ كبير، وهو لوّح بجدّية الخيار النووي من خلال إعلان انسحابه من آخر معاهدة نووية متبقية مع واشنطن. وفي المقابل، كان سقف خطاب بايدن عالياً هو ايضاً.
في اختصار، فإنّ كل ذلك يؤشر إلى جولات حربية جديدة اكثر عنفاً وقسوة وتدميراً. ومن الواضح، انّ فصل الشتاء الذي راهن عليه الكرملين لتحقيق نقاط حاسمة في المعارك الدائرة، يقترب من نهايته من دون حصول الإنجازات الموعودة. فأوروبا لم تبرُد كما لوّحت موسكو باستمرار العام الماضي، والهجوم العسكري الروسي جاء ضعيفاً، ولم يحقق نتائج كبيرة وحاسمة لا بل على العكس، فإنّ اوكرانيا تستعد مع حلفائها لهجوم مضاد في الربيع، وهو ما قد يكون أحد اسباب زيارة بايدن إلى كييف. وهو ما يعني في اختصار، أنّ السنة الثانية من الحرب الاوكرانية ستكون اكثر عنفاً وقساوة ودموية، وانّ الظروف لا تسمح الآن بالحديث عن تسوية، فهي لم تنضج بعد.
وفي الوقت الجاري تزويد اوكرانيا الدبابات الحديثة المتطورة والطائرات الحربية، قرّر بوتين مضاعفة عدد جنوده على الاراضي الاوكرانية ليصل إلى نحو نصف مليون جندي، وهو ما يعني انّ ثمة عاصفة قد لا يتأخّر هبوبها. وعلى الرغم من النزاع الاميركي ـ الصيني، الّا انّ بكين لا تزال تبدو باردة في دعمها لموسكو. ففشل روسيا في أخذ العالم من خلال اوكرانيا إلى ثنائية اميركية ـ روسية جديدة، يريح الصين ولا يزعجها. وغرق الجيش الروسي في المستنقع الاوكراني لا يزعجها ايضاً، فهي لا تريد روسيا عظمى مرة جديدة، تتزعم الدول المناهضة للاميركيين، لكنها لا تريد في الوقت نفسه انكساراً دراماتيكياً روسياً امام الولايات المتحدة، فهذا يضرّ بمصالحها خصوصاً في تايوان التي تراقب بدقّة مسار الحرب في اوكرانيا.
في اختصار، قد تكون الصين تفضّل استنزافاً لروسيا لكن من دون ان تصل الامور إلى حدود الخسارة الكاملة. تريد لها إخفاقاً يدفعها للسقوط في أحضان الصين، وليس هزيمة تمنح واشنطن انتصاراً سيؤذيها مستقبلاً.
وبدا واضحاً، انّ واشنطن تدرك جيداً حدود اللعبة المفتوحة في اوكرانيا، لذلك فهي تندفع في استنزاف قوة روسيا إلى الحدّ الأقصى الممكن، إن في اوروبا حيث أُعيد وضع حاجز نفسي وسياسي صلب مع روسيا، أو حتى في الشرق الاوسط، وهنا بيت القصيد.
هنالك من يعتقد انّ واشنطن تريد من خلال اوكرانيا انتزاع ورقة سوريا من يد روسيا.
في السابق وخلال حقبة الاتحاد السوفياتي، كانت موسكو تركّز على ثلاثة بلدان في الشرق الاوسط وهي: افغانستان واليمن وسوريا. وأدّت التطورات لاحقاً إلى خسارة روسيا لنفوذها في البلدان الثلاثة، إلى حين لاحت الفرصة مع طلب النجدة الذي تقدّمت به كل من دمشق وطهران من موسكو للمساندة العسكرية في الحرب الدائرة، وهو ما حصل في 30 حزيران 2015، ويومها أحسنت موسكو طريقة استعراض عضلاتها، وأسست مجدّداً لحضور استراتيجي عبر قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية. وتعاطت موسكو دائماً على أساس أنّ سوريا باتت تمثل امتداداً للمصالح الحيوية الأمنية الروسية، وأنّ هاتين القاعدتين الجوية والبحرية، تُعتبران خط دفاع روسي متقدّماً شرقي البحر المتوسط، للتوازن مع حلف شمال الاطلسي الموجود على طول شواطئ المتوسط، وفي قاعدة انجرليك الجوية جنوب تركيا.
وهذا ما جعل تركيا كمن يمشي وسط حقل الغام، وبالفعل انفجر احد هذه الألغام بوجه أنقرة يوم أُسقطت طائرة حربية روسية بعد اقل من شهرين على الدخول العسكري الروسي إلى سوريا. وحصلت أزمة متوترة امتدت لأكثر من عام. واشنطن كانت تحسب انّ التكامل العسكري الروسي ـ الايراني سينقلب إلى تناقض سياسي حين تنضج الظروف. ولكن مع غرق روسيا في المستنقع الاوكراني، سعت تركيا بمباركة اميركية ضمنية وبكثير من الحذر، إلى ملء الفراغ الذي خلّفته.
وبعد التنسيق الممتاز بين موسكو وتل ابيب في سوريا، بدأ تنسيق مشابه بين اسرائيل وتركيا، قبل ان يدفن الزلزال المباغت الطموح التركي.
والواضح انّ نقطة التقاطع ما بين روسيا وتركيا واسرائيل والولايات المتحدة في سوريا، هي خنق النفوذ الايراني. ولكن مع انكفاء تركيا بسبب الزلزال المدمّر، وسعي ايران للاستفادة من الوضع لإعادة تثبيت أقدامها واحتضان النظام السوري بقوة، شعرت العواصم الخليجية انّ الوقت حان للدخول إلى دمشق، خصوصاً انّ الوضع المعيشي بات صعباً جداً، ما يسهّل عليها إحاطة الرئيس السوري وأخذه بعيداً من الإحاطة الايرانية. لكن الانفتاح الخليجي على دمشق، والذي اعتبر وزير الخارجية السعودي انّه آن أوانه، لن يكون بلا أثمان سياسية. والمقصود هنا، ان يكون مقروناً بتسوية سياسية نهائية لسوريا. وهذه التسوية التي تقوم على صيغة حكم مستوحاة من الصيغة اللبنانية، وذلك بإعطاء رئيس الحكومة السنّي ومجلس الوزراء صلاحيات جدّية، ولكن مع الإبقاء على السلطة العسكرية والأمنية بيد الرئيس السوري. وما يشجع دول الخليج على خوض غمار التسوية في سوريا هو الوضع الاقتصادي الصعب والمأزوم لإيران، خصوصاً بعد نجاح واشنطن في التفاهم مع الحكومة العراقية لمنع تسرّب الدولار إلى إيران إثر زيارة وزير المال العراقي لواشنطن، وبحجة استعادة استقرار العملة العراقية. ولذلك سُجّل مزيد من انهيار العملة الايرانية، في وقت تبحث موسكو عن تبادل مساعدات عسكرية بينها وبين طهران.
كذلك، فإنّ التفاؤل الذي يسود حيال قرب إنجاز تسوية سياسية في اليمن والتوصل إلى سلام ثابت ونهائي، يشجّع عواصم الخليج على فتح الملف السوري. ففي اليمن كلام عن تفاهمات أولية حول تقاسم السلطة والمواقع الاقتصادية، ولكن يبقى بند التفاهم على السلاح خارج إطار الجيش عالقاً.
وهذا المناخ في حال استمر في منحاه الايجابي، سيستفيد منه لبنان حتماً، حيث تسعى واشنطن لإغلاق الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وهو ما تؤمّنه مستنقعات القتال في اوكرانيا ولو بطريقة غير مباشرة.